سلوى زيادين في ذكرياتها المشتركة مع يعقوب زيادين

حسناً فعلت الكاتبة الدكتورة هدى فاخوري إذ قامت بتسجيل ذكريات المناضلة سلوى زيادين زغيب، شريكة حياة ورفيقة درب المناضل الدكتور يعقوب زيادين، أحد مؤسسي وقادة الحزب الشيوعي الأردني (1921-2015) وأصدرتها في كتاب خاص تحت عنوان “ذكريات حياة مشتركة.. سلوى ويعقوب زيادين”، عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان.

الكتاب الذي قدمت له مُعدِّته الدكتورة هدى، يضم إلى جانب ذكريات السيدة سلوى صورا عن رسائل زوجها لها في الغربة حيث كانت تقيم في ألمانيا بعد سجنه، ورسائله إلى أبنائه، ورسالة وحيدة منها لزوجها في السجن؛ إذ أن بقية رسائلها له فقدت في السجن، وعددا من الصور العائلية.

لقد قامت هدى فاخوري بتسجيل هذه الذكريات وإصدارها في كتاب وفاءً منها للمناضل يعقوب زيادين، فأجرت عشـرات اللقاءات مع السـيدة سلوى، تذكرتْ الأخيرة خلالها أياماً صعبة، واستذكرتْ سنوات النضال مع رفيق دربها، إذ عاشا معاً أكثر من ستة عقود منذ التقيا للمرة الأولى في صـيدا في لبنان سنة 1950 إلى أن رحل عام 2015.

تتذكر سلوى في هذا الكتاب مواقف صلبة لرفيقها، كانت فيها دائماً إلى صفّه، تدعمه وتشجّعه وتقوم بواجب الزوجة والأم والصديقة، إلى جانب كونها مناضلة لم تفتر همتها يوماً في الدفاع عن المبادئ التي آمنتْ بها.

وُلدت المناضلة سلوى زيادين سنة 1921 في مدينة دمشق في سوريا، في باب مصلّى، من أبوين لبنانيين من ضهور الشوير. درست المرحلة الابتدائية في دمشق، وواصلت دراستها في مدرسة الإرسالية الإنجليزية في بيروت بعد حصولها على منحة لتفوقها، وأتمت الدراسة في دار المعلمات التابعة للإرسالية.

تعرفت على يعقوب زيادين أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وارتبطت به، وظلت مخلصة لعلاقتهما، التي شكلت نموذجا فريدا للعلاقة الزوجية القائمة على الحب والتضحية والنضال المشترك من أجل قضايا عامة تتصل بحرية البلاد والشعب، ونيله حقوقه، وظلت هذه العلاقة قائمة حتى وفاته سنة 2015. فهي لم تكن مجرد زوجة وأماً لأطفاله، بل كانت مناضلة شاركته درب النضال الصعب، تعرضت للسجن، والاختفاء، والعيش في الغربة، وكانت رائدة في العمل النسوي في الأردن. وبقيت تؤمن بعدالة القضايا والمبادئ التي كانت تؤمن بها وتناضل من أجلها حتى هذه اللحظة، رغم التغيرات والتحولات الدراماتيكية التي حدثت في منطقتنا والعالم، من انهيار منظومة الدول الاشتراكية، وانهيار الاتحاد السوفييتي مؤسس أول دولة اشتراكية في العالم، وزعيم الحركة الشيوعية على مدى سبعين عاما، والارتدادات التي تلت ذلك الانهيار في منطقتنا من انقسامات في الأحزاب الشيوعية، وانحسارها.

السيدة سلوى التي بلغت السابعة والتسعين، تسرد حكايتها بعفوية، ولعل أكثر ما يستقر في ذاكرة مناضلة مثلها هي تلك الأحداث المتصلة بنشاطها الحزبي والسياسي، ومعاناتها جراء سجن زوجها لمرات عديدة، ولسنوات طويلة، كما أنه لم تنمحِ من ذاكرتها تلك اللحظات الجميلة التي بدت مثل أزهار برية تزين بساط الأرض. فهي تتذكر بداية تعارفها على شريك المستقبل، وبداية عملها السياسي، وتجربة السجن، والحياة في القدس، والحياة في ألمانيا، ثم الاستقرار في عمّان.

عن تجربة السجن الأولى، تقول السيدة سلوى: “بعد اعتقال يعقوب، لم نغادر بيتنا، وكنا ننتظر أن نسمع أيّ أخبار عنه، فجأة أرسلوا لنا من مخفر الشـرطة مَنْ يخبرني أن لي رسالة من يعقوب، رفضتُ الذهاب لاستلامها، وقلت لهم: «إذا كان لي رسالة أرسلوها لي، وأنتم أحرار في ذلك»، بعد ساعات حضـر الأستاذ جميل (ابن شقيق يعقوب) لزيارتنا، وهو محامٍ، قال لي: «لماذا لا تذهبين لأخذ الرسالة», فقد ذهبت حياة، زوجة د. عبدالرحيم بدر، لاستلام الرسالة من مخفر الشـرطة».

ذهبتُ للمخفر لأخذ الرسالة، لكنهم اعتقلوني أنا وزوجة عبدالرحيم ووضعونا في سـيارة «جيب» وأرسلونا للسجن في القدس.

كانت هذه أول مرة أدخل السجن فيها, ووضعونا مع النساء العاهرات، وعرّفونا على أننا زوجات لأطباء، فقالت إحداهن: «لا فرق في السجن بين مَن كانت زوجة طبيب أو عاهرة»”.

وعن حياتها في قرية السماكية التي اضطرت للعيش فيها عند أهل زوجها بعد اعتقاله سنة 1954، وعن طيبة أهلها وصبرهم، وتمسكهم بقيم التضامن، تقول: “وكانت الشابات في السماكية متعاطفات معنا، وكنّ حزينات علينا ويتألمن بسبب ظروفنا الصعبة، ويقلن: «أنت منفية في السماكية ويعقوب في السجن، يا لصعوبة العيش!». وكن ّ يلبسن «المدارق» مقلوبة حزناً علينا، وكنت أستغرب هذا المشهد كثيراً، إلا أنني ألفتُ الحياة مع أهل القرية، رغم أن الحصول على الماء لم يكن سهلاً، كما لم يكن في القرية عيادة صحية أو مدرسة”، وتضيف: “أنا أتحدث عن عام 1954، إذ كانوا يجلبون الماء على ظهور الجِمال من وادي الموجب، وكنت أشجِّع نفسـي على تحمُّل هذه الظروف القاسـية وأقول: «هذا هو النضال، وعلينا التماسك».

وتذكر حادثة تكشف عن درجة صعوبة الحياة في تلك الفترة، التي أفرزت مناضلا عنيدا مثل الدكتور زيادين، تقول: “ولن أنسـى حادثة الجَمَل الذي نفق بسبب المطر الغزير. وخسارة الجَمَل كانت حدثاً خطيراً، لأنه يساعد الناس في جلب الماء. وقد حزن الناس عليه كثيراً كأنه إنسان”.

وفي ملحق الرسائل التي كتبها الدكتور يعقوب لزوجته سواء من داخل السجن أو من خارجه، والتي بالتأكيد لم يكن متاح له فيها أن يتحدث بالأمور السياسية والحزبية، إذ أنها تمر عبر الرقيب الأمني، إلا أنها تبقى وثائق مهمة تكشف العديد من الجوانب الإنسانية لحياة المناضل، وتكشف بعضا من جوانب شخصيته، فقد كان حريصا أن يبث روح الأمل والتفاؤل بمن هم خارج السجن من خلال نقل التطمينات الدائمة عن ظروف اعتقاله، التي لم تكن بالتأكيد ظروفا مثالية.

وهو دائم الاهتمام بسماع أخبار أولاده، ومتابعة صحتهم، ودراستهم، وأحوالهم، ولا يتوقف عن تشجيعهم على الدراسة ومساعدة أمهم، وتطوير هواياتهم… ويفرح لإنجازاتهم، ويطمئن زوجته بأن لديه ما يكفي من الملابس والطعام، ويبدد قلق زوجته بسبب نقله من سجن الجفر إلى سجن المحطة، ويطمئنها دائما عن صحته، ويطلب منها أن تحافظ على صحتها وعلى الأولاد، ويعبر عن حاجته للكتب، والمجلات الطبية بشكل خاص، ما ينم عن استثماره لسنوات السجن في زيادة المعرفة التي هي سلاح أساسي للمناضل.

وهو لا يضغط على أهله بكثرة المطالب، ويدّعي أنه يتدبر أمره في السجن، وهو يفرح عندما يسمع أغنية من التراث البدوي، التي لربما كانت تؤجج لديه نار الشوق لبلدته، وحياته السابقة، ويفرح لموسم المطر، ويروي النكات، ويتحدث عن نشاطهم الزراعي في المعتقل، وكانت كل رسالة بالنسبة له مثل موعد لقاء مع زوجته، يحضر نفسه لذاك اللقاء، من استحمام، وحلاقة، وتزين. يعاتبها بحب أحيانا، ويستعيد ذكريات جميلة معها تارة أخرى، ويقلق على صحتها، وعلى قلة اهتمامها بنفسها.

أما الرسالة الباقية الوحيدة من سلوى لزوجها في السجن، فهي تعود لسنة 1964، فقد كانت مليئة بمشاعر الحب الجياشة، والأمل باللقاء القريب.

يذكر أن يعقوب زيادين ولد في السماكية، الكرك، تلقى تعليمه الأولي في مدرستها، ثم انتقل سنة 1933 إلى المدرسة الأميرية بالكرك لدراسة المرحلة الإعدادية. وفي سنة 1939 التحق بمدرسة السلط الثانوية التي أنهى فيها الثانوية سنة 1937. سافر إلى دمشق سنة 1941 ليدْرس فيها الحقوق، إلا أنه تحوّل بعد سنتين إلى دراسة الطب، وفي سنة 1945 انتقل إلى بيروت ليواصل دراسته في الجامعة اليسوعية، فحصل منها على شهادة البكالوريوس في الطب سنة 1950، وتخصص في ما بعد في جراحة المسالك البولية في برلين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1965-1967(عمل طبيباً في مستشفى “أوغستا فيكتوريا” أو “المطلع” في القدس منذ سنة 1950 إلى أن أُبعد عنها سنة 1953، ثم افتتح عيادة خاصة في عمّان (1953-1955(.

انضم إلى الحزب الشيوعي السوري اللبناني (1943-1951)، وأسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الأردني سنة 1951، وانتُخب نائباً عن محافظة القدس في البرلمان الأردني (1956)، ثم اعتُقل سنة 1958 ومكث في السجن حتى أُفرج عنه سنة 1965 بعد صدور عفو عام في عهد حكومة وصفي التل.

بعد عودته من ألمانيا سنة 1968، عمل في عيادته الخاصة في شارع طلال بعمّان تقاعده سنة 2000.

رأسَ الحزب الشيوعي الأردني سنة 1987 وبقي في هذا المنصب حتى استقالته منه سنة 1997.

وكان عضواً في رابطة الكتّاب الأردنيين، ونقابة الأطباء الأردنية.

ومن مؤلفاته ثلاثيته في سيرته: “البدايات”، 1980، “ليست النهايات”، 2006، “لو عادت بي الأيام”،2011، وكتاب صدر عن شبكة الجزيرة تضمن شهادته على العصر التي بثت على قناة الجزيرة.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى