سماح إدريس بريق الصور المنسيّة (يزن الحاج)

 

يزن الحاج

اختار سماح إدريس (1961) الطريق الأصعب في الكتابة الأدبية. أن تكتب عن الفتيان يعني اقتحام مجال لا يزال بِكراً في الأدب العربي، رغم العقود الطويلة التي تتابعت فيها التطورات في المشهد السردي. تكمن المغامرة الحقيقية في الكتابة من الناشئة ولهم، بالاستناد إلى لغة تُوصف بأنها «قاصرة» أدبياً. لذلك، كان الطريق الأسهل عموماً هو الاقتباس أو التعريب من الآداب الأجنبية، مع الاحتفاظ بصورة نمطيّة عن هذا الجنس الأدبي بوصفه «أدب درجة ثانية» إذا ما قورن بـ«دواوين العرب» المتلاحقة في الشعر والرواية. يتجه إدريس في روايته «خلف الأبواب المقفلة» (دار الآداب) إلى الشريحة العمرية شبه المنسية (نهاية المرحلة الثانويّة وبداية الجامعية) ليشرّع باباً مجهولاً ومهمَلاً. إنها الشريحة التي ترد دائماً في «روايات الكبار» بصفتها شخصيات داعمة للشخصيات الأساسية، ومكمّلة للمشهد الذي يفيض بالتابوهات التي كنّا نقرر مسبقاً أنها بعيدة عن هذه الشريحة.
وبدلاً من الاكتفاء بالتوصيف السطحي للشخصيات، يوغل إدريس في تشريح هذه الفئة العمرية بلغة سلسة أقرب إلى التحليل النفسي لـ«أبطال» الرواية (يتقاسمون الحضور بالتساوي في الكتاب)، وللشخصيات المرافقة لهذه الفئة العمرية، من أهل وكادر تدريسي. في هذه الرواية، نجد أنفسنا (للمرة الأولى عربياً ربما) في مواجهة مرحلة «الشرنقة» في التكوين السيكولوجي؛ مرحلة بداية الأحلام والطموحات، والتحضير لبناء الحياة القادمة الغارقة في الضجيج. إنّها أيضاً المرحلة التي يبدأ فيها الصدام الأول مع التابوهات التي يلاحظ القارئ حضورها الجريء غير الملتبس وغير المموّه بلغةٍ «حياديّة» اعتدناها في الأدب والفن الموجّه إلى الفتيان والفتيات.
ثمة حضور شفيف للسياسة والدين بل حتى للغواية في الرواية، بدا مكمّلاً لهذه اللقطة المقرّبة من الحياة، من دون أن يكون عائقاً في تمييز الاختلافات بين الشخوص رغم تماثلهم الطبقي والعمري. ومع أنّ هذا التماثل الطبقي (الشريحة فوق المتوسطة الأقرب إلى الثراء)، عدا غياب الشخصيات «السلبية» أو «المغايرة» (رغم كون هذه الفئة العمريّة هي بداية المغامرات والتجريب واللذة أيضاً) بدا أحياناً مقصّراً عن تمثيل معظم هموم تلك الشخوص، سيكون بإمكاننا تبرير هذا الأمر بقصر الرواية (119 صفحة)، وعدم ادّعائها تمثيل تلك الفئة العمرية بأكملها. في المقابل، نجد لبنان «الشاب» بأكمله هنا، بتعدديّته وغناه وتناقضاته، من دون تدخّلات «الكبار» المفسدة، إذ بدا الأهل والكادر التدريسي ظلالاً للشخصيات الفعلية في الرواية، أي الفتيان والفتيات بكلّ براءتهم، سذاجتهم، وجموح أحلامهم.
تبدو اللغة في «خلف الأبواب المقفلة» كأنها البطل غير الموجود. إنها شخصية أخرى (لعلها الشخصية الأهم) في الرواية. وهنا تكمن فرادة أدب إدريس الذي يحاول مزج مشروعه الحياتي مع الأدبي في تطوير اللغة العربية. ليس ثمة حضور ثقيل للسرد أو الحوار، بل نجد هذه «اللغة الثالثة» التي كانت الحلم الدائم للكتّاب. اختار إدريس التجريب الجَسور في المزج بين الفصحى المبسّطة والعاميّة المخفّفة، من دون أن ينسى إدخال جرعات من العاميّة في الحوارات، إضافة إلى تجريبه اللغويّ الجريء في إدخال مفردات متجدّدة إلى اللغة، هي مفردات مواقع التواصل الاجتماعي، وجيل الألفيّة الثالثة.
تمضي «وراء الأبواب المقفلة» نحو نهايتها المفاجئة بسرعة. إنها رواية «الجلسة الواحدة» في القراءة، التي لا يقطعها سأم أو تكرار. ولهذا ربما تبدو النهاية كأنّ انقطاعاً مفاجئاً للكهرباء قد حدث. وبعد عودة الضوء، سيصاب القارئ بحيرة باحثاً عن المصائر الغامضة للشخصيات التي عاش معها، وتركت أصواتها وألوانها المتعددة في ذاكرته، ثم مضت لتكمل طريقها.
بالتأكيد، تبتعد الرواية عن تصنيف «الكتابة الوعظيّة». لا نجد ذلك التدخّل المعيق للكاتب في مسار الشخصيات، بل كان يحضر أحياناً بشكل غير مباشر (وإنْ بدا تحريضيّاً) للدفع إلى استقلاليّة الرأي عند الشخصيات ونظائرها في الحياة الواقعيّة. للوهلة الأولى، قد تبدو كأنها لا تُعطي جديداً عما نعرفه عن هذه الفئة العمريّة الجامحة، لكنها ـــ حقيقة ـــ تضيء الخيارات الأخرى في الحياة بعيداً عن ثنائية الأبيض والأسود المعتادة في أدب الفتيان، وتبدو أقرب إلى كتاب «تربويّ خفيف» يخلو من التفاصيل المرهقة، مُبقياً على لحظات البهجة التي ستبقى مثل بريق العيون في ألبوم صورنا القديمة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى