سميح مسعود يستعرض ‘حصاد السنين’
زرع الدكتور سميح مسعود على مدى سنوات عمره الشيء الكثير، وحصد الكثير من ثمار عمله. إلا أن حصاده الأكبر يأتي بعد تقاعده الرسمي من العمل. هذا ما يوثقه لنا الأديب الكبير صاحب ثلاثية “حيفا بُرقة .. البحث عن الجذور”، في كتابه الجديد “حصاد السنين” الصادر مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان.
يكتشف أديبنا أن بذوراً كثيرة كان قد نثرها عبر مشوار الحياة، وأنه في طريق العودة إلى البداية الجديدة، يكتشفها من جديد، وقد أصبحت أشجاراً باسقة، محمّلةً بالثمار اليانعة.
الكتاب بمجمله يتحدث عن مرحلة ما بعد التقاعد، وهي مرحلة خصبة، بالنسبة للكاتب، وكان حصادها وفيرا. إلا أن الكاتب عمد إلى استرجاعات محددة من مسيرة حياته، وقد ركّز عليها، مهتماً بعلاقته بالعام، لا الخاص، والعام هنا هو اهتماماته بقضايا الأمة وقضايا وطنه فلسطين، وشعبها. ففي مرحلة عمله في منظمة أوابك، ركز في عرضه لإسهاماته النظرية من خلال المقالات والدراسات والتقارير التي كان يعدها والتي يعتقد أنها تتضمن أفكارا عملية يمكن أن تسهم في إيجاد وحدة ونهضة اقتصادية عربية.
يعتز الكاتب بمنجزه العلمي والأدبي من خلال الكتب التي أصدرها، لأنها هي الأنفع للناس، وغير ذلك مجرد زبد يذهب جفاءً. ومن هنا اهتم الكاتب بعرض رحلته من كتابه “حيفا بُرقة.. رحلة البحث عن الجذور” بأجزائه الثلاثة. ليصبح الكتاب مشروعا وطنيا وارف الظلال، من خلاله تمكن الكاتب من التواصل مع أعداد كبيرة من أبناء موطنه، لينسج من خلالهم شبكة من العلاقات تفضي بعضها إلى بعض، لتشكل في مجملها حياة وذاكرة شعب كامل، لم ينس وطنه، ولن ينساه.
مرحلة ما بعد التقاعد كانت بالنسبة للأديب سميح مسعود بداية مرحلة جديدة، حياة جديدة، مليئة بالأحلام، والقطاف، وهو يكشف عن شغفه بالأدب، ذاك الشغف الذي لم تطمسه انشغالاته المهنية المتصلة بالاقتصاد، الذي طبعه بطابعه الأدبي أيضاً في مؤلفاته الاقتصادية، فجعله مقبولاً لعامة القراء، لا جافاً، خاصاً بالمختصين.
هذا الكتاب قطوفٌ دانيةٌ، في بستان الكاتب، يقدمها لقرائه، بلغة سردية أدبية رقيقة، ليتعرفوا من خلالها على إنجازات يحق له ولنا، أن يفخر ونفخر بها، لأنها إنجازات تتحدث بكل تفاصيلها عن ارتباط الأديب بوطنه الصغير فلسطين وتعلقه به، ومحاولة إبقائه حياً في الذاكرة وفي الوعي الجمعي، وبوطنه الكبير العالم العربي، وحلمه بوحدته ونهضته، وبانتمائه الإنساني.
كتب المؤلف تحت عنوان “في البدء كانت الكلمة”: من براعم الياسمين تولد الكلمة الصادقة مفعمة بشلالات من الأحاسيس… تتألق على سطور صفحات من الأوراق البيضاء برقص دائم لا يعرف الانتهاء… تتناثر حولها الحروف والفواصل بمداد غارق بالندى … كلمة تلو كلمة تخفق في كل الجهات.
تُطل الكلمة الصادقة بوشوشات أوتار شجية يبلغ رنينها أقاصي الكون … ينبضُ الليل الرمادي على أجنحتها في رحاب السكون … شيئاً فشيئاً تنساب عبر الليل، وتلونُ وجه الصبح بألوان ربيعية.
تَرسم الكلمة الصادقة ما طاب من الحروف في مسامات السطور … تتنائر الأفكار على إيقاعها في كل شيء … وما أن يتم تشكيل الأفكار وترتيبها حتى تتفتح الأوراق متمايلة بتويجات أكاليل تكتحل بها العيون.
يُدرك القارئ إذ ذاك كيف تدبق الحروف على مقابض متتاليات من الصور الجميلة، وتنغرس في زحام منابت تكوينات مفهومية دقيقة تُلاحقه وهو يقرأها، يستدفئ بها ويحسُّ على إيقاعها برغبة جامحة للاقتراب أكثر فأكثر من عناقيد اختلاجات ثقافية وأدبية وفكرية يسودها العمق والصدق… تنهدلُ حوله كانثيال الأضواء.
يتابع القارئ مجريات الكلمة الصادقة بمختلف لمساتها وانسيابها وبريقها الوهاج ... يتابعها وكأنها أسرجة له في فضاءات الحروف والمفردات المنقوشة في مفارش الأوراق، يتشابك معها بكل إشاراتها وأخيلتها وإحالاتها… يطيل اللقاء معها… يُعلقها حوله على امتداد المدى، ويبحرُ معها على امتداد الأيام .
هكذا تتألق الكلمة الصادقة بصياغاتها اللفظية وأفكارها ومفاهيمها، وبكل ما تنسجه بقطرات الحبر من عبارات ترتعش النصوص على إيقاعها بتجلياتها المختلفة، وبكل ما يتصلُ بها من تفسير وتحليل وتعليل وتأويل واستحضار أدلة وحيثيات مطولة.
وفي مكان آخر كتب: “حيفا تحلق في رحاب الذاكرة” شحنتني بدفعة قوية نحو الكتابة، وفسحت المجال أمامي لنسج نصوص شعرية ونثرية عن حيفا حلقتُ فيها بعيداً بعيداً، وفتحت آفاقاً واسعة جديدة عنها في منافي الشتات مليئة ببؤر من الأحلام نابضة ومتوهجة… تناثرت حولي الحروف والفواصل بمداد غارق بالندى، دمجتها في قصائدَ ومقالات كثيرة، منها قصيدة أسميتها “سيدة الشرفة العلوية” قلت لها بحروف عالية مع همهمات الرياح:
يذكر أن الدكتور مسعود شاعر وكاتب، وُلد عام 1938 في حيفا، هُجِّر مع عائلته عام 1948 إلى بُرقة التي تنحدر منها عائلته، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية؛ درس في جامعتي سراييفو وبلغراد في يوغوسلافيا، وحصل في عام 1967 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بلغراد. عمل مستشاراً اقتصادياً في ثلاث مؤسسات إقليمية عربية، تتخذ من الكويت مقراً لها. انتُخب في عام 1990 رئيساً للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين – فرع الكويت.
وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، والاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب.
يعمل مديراً للمركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط في مونتريـال/ كندا، ورئيساً للصالون الثقافي الأندلسي في مونتريـال التابع للمركز نفسه.
صدر له أربعة عشر كتاباً في مجال الشعر والأدب، منها: “الوجه الآخر للأيام”، شعر، 2011، و”رؤى وتأملات” نصوص نثرية، 2012، و”حيفا… بُرقة – البحث عن الجذور (الجزء الأول)، 2013، وصدر باللغة الإنجليزية في أمريكا بترجمة د. بسام أبو غزالة، سنة 2016، و”حيفا وقصائد أخرى”، شعر، 2014، وترجم إلى اللغة الإنجليزية سنة 2016، و”متحف الذاكرة الحيفاوية”، 2014، و”مقامات تراثية”، 2015، و”حيفا… بُرقة – البحث عن الجذور (الجزء الثاني)، 2015، و”حيفا… بُرقة – البحث عن الجذور (الجزء الثالث)، 2017، و”تطوان وحكايا أخرى”، 2017.
وصدر له في مجال اختصاصه العلمي عشرون كتاباً في مختلف المجالات الاقتصادية باللغتين العربية والإنجليزية، منها: “الموسوعة الاقتصادية” (جزءان)،2008، و”قضايا اقتصادية عربية”، 2009، و”الأزمة المالية العالمية، نهاية الليبرالية المتوحشة”،2011 ، و”التنمية العربية في ظلّ الربيع العربي” 2014.
كما نشر العديد من المقالات الاقتصادية في مجلّات وصحف عربية وغير عربية، منها جريدة الحياة اللندنية، ومجلة “النفط والتعاون العربي”، ومجلة “المستقبل العربي”، وله العديد من المقالات الأدبية المنشورة .
ميدل ايست أونلاين