سنوات الخوف
سنوات الخوف…
قبل عشرسنوات :
فقدان الأمان … كلمتان في سهولة يقال بهما ما الذي يعنيه أن تكون خارج المنزل وهمّك، كل همك، أن تصل إليه سالماً.
وأن تكون على الباب. تدير في القفل المفتاح، متلفتاً كالأرنب، ومصغياً إلى رنين الصمت… وهمّك أن يفتح الباب في سرعة لكي تدخل إلى مملكة الأمان.
وأن تكون داخل المنزل…فتسدل على النافذة دعاء ألا تأتي الطلقة الطائشة أو القذيفة المصوبة، وأن تردد أغنية، تكتشف، لاحقاً، أنها آتية إلى ذاكرتك العاطفية من طفولة بعيدة… ترددها لتبدد خوف الإنسان من وحدته، ومن ذئب ليله…ولكي ينام عليها قلب مؤلف من فرط الاحتمالات.
وأن ترنّ ساعة المنبه في صباح غامض، فلا تعرف إن كان جرس الباب، وأمامه ساعي البريد يعطيك رسالة فيها طحين سام، أو يأتي من يطلب إليك الذهاب إلى فنجان قهوة من صنع مخابرات العالم الثالث…ثم بعدها لا تعود إلى المنزل لعشرات السنين…
أن، وأن، وأن
هذا هو الفقدان. فقدان الأمان، يعيش الوفرة وهو خائف، ويعيش طعام الحصار وهو خائف. ويبدو أن البشرية قد صنعت كل أدواتها، وخاصة الأسلحة، بعقل وإبداع وروح الخائف. وكلما طورت البشرية فأساً كانت هناك، في مكان، شجرة تهوي…وتحتها الخائف.
بالهاتف المحمول يمكن اغتيال رجل وهو يغازل حبيبته، وبه تصل إلى القطب الشمالي لتتحدث وتداوي فقمة عالقة بين الصخور.
قبل ملايين السنين عاش الإنسان في الكهف، وعلى خصره ما يدل على إنجازه…فروة الوحش الذي قتله وأكله وتدفأ بجلده.
وبعد ملايين السنين يعود الإنسان إلى ذات الكهف، ربما إلى ذات الكهف، وعلى خاصرته العلامة الدالّة على ما ارتكبه بحق نفسه…رجفة الخائف.
هكذا تقدم العلم، وتراجعت الحكمة. تطور السلاح وابتعد السلام. تحسنت بالدواء رئة الإنسان، وضاع الهواء النقي الكريم.
كان الإنسان خفيفاً بقدميه العاريتين على كوكب ثقيل ألقته أمه، ذات انفجار، في سديم الفضاء…فأصبج الإنسان ثقيلاً على صدر أمه الأرض، فتذّمرت منه الغابة لأنه قطعها، والنهر لأنه جففه، والبحر لأنه لوثه، دون عودته سالماً إلى غريزة بسيطة .
ما لم يعد الحديد والفولاذ والذهب والنحاس…خردة من جديد إلى مناجمهم… سيمعن الإنسان بصنع الطائرة والدبابة والقيد، ويقتل ثم يقتل حتى النهاية…
ثم يخاف !
……………………
كانت خطاي تتثاقل، وانا أصعد المنبر لقراءة الشعر في امسيات إحدى القرى السورية…
عند العتبة، وقبلها في الطريق ، صور لفتيان شهداء منهم من يبتسم، ومنهم من يحاول الإيحاء بالقوة وانعدام … الخوف.
حين أخرجت أوراقي، قمت بشيء غريزي تقريباً. استبعدت أوراق النعوات من قصائدي، وقرأت نكهة الحياة، وحاولت أن أجعل الهواء هواء، وليس خزاناً لكيمياء الموت في مجازات الشعراء.
قلت: أغبط الطير وهو يبني عشه في شجرة وتحتها صياد.
أغبط الشجرة وهي ترفو جراح الفؤوس.
أغبط الفؤوس وهي تنكش فتنة الأرض.
أغبط سورية الحزينة لحظة خلاصها من محنتها.
أغبط…
سأغبط دماً انتصر على سيف!
………………………………………….
حسناً فعلت، كما يبدو،
كنت كساعي بريد قروي يوزع البشاره.
لقد حصلت على مكافأتي بتصفيق خفيف.
بعد عشر سنوات:
أتت الحرب بسلاح جديد ومألوف ومخيف أكثر…حرب الارغفة !