سوريا… التدين بين الكفتاريين والإخوان (عبد الغني عماد)


عبد الغني عماد*

 

لا يمكن رسم ملامح التدين الشعبي السوري المعاصر دون الإطلالة السريعة على الظروف السياسية والبيئية الحاضنة له؛ ذلك إن النظام السوري في صراعه مع الإخوان المسلمين أطاح بكل أشكال العمل الحركي للإسلام السياسي، وعمل على تشتيته وتجفيف منابعه، ومطاردة كوادره، وكانت مجزرة حماه وما تلاها السنة (1982) تمثل ذروة نهج الاجتثاث الذي اتبعه تجاه هذا التيار، الأمر الذي ترك الساحة الإسلامية فارغة، ورسم بالتالي حدود وسقف العمل الإسلامي المسموح به ضمن إطار ما يمكن أن نسميه تديّنا شعبيا – صوفيا صامتا، تعليمي الطابع، تقوي ووعظي من جهة وقريب من السلطة أو مهادن لها أو أحد صنائعها من جهة أخرى.
أبرز هذه الجماعات اليوم في سورية تتمثل بجماعة أبو النور )الكفتاريون(، والتيار الأشعري الذي يمثله الدكتور سعيد رمضان البوطي، والجماعة النسوية البارزة والناشطة والمعروفة باسم (القبيسيات)، بل وحتى الأحباش بكيفية ما(من حيث علاقتها الوطيدة بالنظام ودورها المميز وخاصة في لبنان في فترة الوجود السوري)، والواقع إن هذه القيادات وغيرها، تجاوز تأثيرها الحدود السورية، بل إن بعضها أصبح له فروع في عواصم عربية ودولية عديدة، وأصبح له منهجية متميزة في الدعوة والتنظيم وبعض الاجتهادات العقائدية.
إن ضمور تأثير التيار الإخواني إثر تشتيته واجتثاثه كان من شأنه إطلاق عقال السلفية بكل اتجاهاتها، ذلك إن إفراغ ساحة العمل الإسلامي وضرب الإخوان المسلمين وملاحقتهم وتجريمهم طيلة ثلاثة، بل أربعة عقود من المحنة الكبرى، كان بإمكانه أن يساهم، بشكل أو بآخر، في تسرب بعض التيارات السلفية الأكثر تشدداً، وبالتالي إفقاد المجتمع السوري الآليات التي كان يمتلكها لإحداث قوة التوازن والعقلنة في تدينّه العام، وذلك في إطار مواجهته لما يتعرض له من قبل النظام.
كان من شأن الحضور الإخواني أن يعقلن تلك الاتجاهات المتشددة، خصوصاً إذا ما وضع في إطار نظام ديمقراطي تعددي تداولي يعترف بالآخر السياسي المختلف؛ إلا أن هذا لم يحدث، ليس فقط بسبب القبضة الأمنية الحديدية، بل أيضا بسبب اعتماد النظام منذ البداية سياسة "البدائل"، واعتباره أن البديل ليس بالمصالحة والحوار والنقد الذاتي المتبادل والانفتاح على خطاب المواطنة والديمقراطية، مقيما نوعا من "الخصخصة" مفسحاً المجال فيها لنوع واحد من "الإسلام" النمطي يقوم على التدين الفردي والشعبي الصامت، المتسم بالموادعة، والتصوف والزهد، وهو بالوقت نفسه تدين جدالي يثير قضايا خلافية بعضها تاريخي وبعضها كلامي لا علاقة لها بالواقع، ويطرح قضايا سجالية، يظهر فيها النظام صاحب صدر واسع لكل الاتجاهات ومرجعاً صالحاً يلوذ به المتظالمون بنفس الوقت.
كما يترك هامشا لنمط مريح من الحراك الإسلامي. سوف تعرض الدراسة أبرز هذه التيارات التي سمح لها بالعمل في إطار رهانه على هذا النوع من "الإسلام" القائم على الموادعة كبديل عن الاتجاهات الحركية لامتصاص حيوية الحالة الإسلامية وحراكها، والتي كانت تموج بها مختلف الساحات العربية منذ مطلع الثمانينيات، وفي الواقع تحقق بعض النجاح للنظام بهذا الاتجاه، إلا أن الأمور ما لبثت أن بدأت تنقلب باتجاهات معاكسة مع ثورة الشعب السوري.
الكفتاريون (جماعة أبو النور)
تعود في تأسيسها إلى الشيخ محمد أمين كفتارو (1875-1938)، وهو كردي الأصل ابن الملا موسى الذي نزل في سفح جبل قاسيون المطل على دمشق واستقر في حي ركن الدين قرب جامع أبي النور، وكان في ذلك الوقت مصلّىً صغيراً دفن فيه أحد المجاهدين في تحرير بيت المقدس في الحرب مع الصليبيين والمكنى باسم أبي النور. تتلمذ الشيخ محمد أمين على يد كبار مشايخ الطريقة النقشبندية بعد أن أرشده إليه شقيقه الشيخ صالح، وبقي ملازماً للشيخ عيسى حتى وفاته (1912)، وحصل منه على الإجازة في العلم والتربية والتزكية، وتفرغ بعدها لتأسيس دعوته في جامع أبي النور، وقام بنشاط هام على صعيد التصوف والتربية الروحية معتبراً هذا الأمر وسيلة لا غاية، وأنه أسلوب تربوي يساعد المسلم على تزكية النفس وتطهير القلب وتقوية الإرادة. لذلك كان التصوف أحد المرتكزات الأساسية في تكوين مدرسته الإسلامية.
نجح الشيخ في استقطاب وسط دمشقي من تجار السوق وفقراء حي الأكراد، بل امتد نشاطه إلى ريف دمشق، إلا أن المؤسسة التعليمية التي أنشأها وساعدته على توسيع دائرة أتباعه وتلامذته، لم يكن بمقدورها بسبب مخرجاتها التعليمية المنخفضة والمحدودة بالتعليم الثانوي أن توفر له مشاريع قيادات دينية، وذلك لمعرفته بأهمية دور مثل هذه القيادات كونه كان أحد أعضاء "رابطة علماء الشام" التي تأسست العام 1946، والتي هدفت إلى بلورة تأثير اجتماعي وسياسي للعلماء حينها، ولهذه انخرطت بكيفية ما في النشاط السياسي وخاصةً الانتخابي بعد عام على تأسيسها، إلا أنها ما لبثت أن تفككت مع عقد الخمسينات تزامناً مع ازدهار الحياة السياسية وتنامي دور الأحزاب بمختلف اتجاهاتها.
نجحت جماعة أبو النور في تكوين جماعة قيادية حوله من علماء ودعاة بينهم المشايخ عمر الصباغ ونظمي الدسوقي ورمضان ديب وأحمد راجح وصالح السقا وأحمد الجزائري ومحمد خير الصباغ ومحمد عدنان الأفيوني ونذير شخاشيرو ومحمد حسن الحمصي وزياد الدين الأيوبي والدكتور بسام الصباغ ومحمد شريف الصواف وغيرهم. وقد لاقى هذا الانتشار صدى واسعا في دمشق وحلب، لكنه لم يكن بنفس المستوى في مدن أخرى مثل حمص وإدلب ودير الزور وغيرها. إلا أن الانتشار الواسع لجماعة "أبو النور" النقشبندية، وخصوصاً في حلب، لم يمنع من وجود طرق أخرى مثل الرفاعية والقادرية والكلتاوية، وهذه الأخيرة أسست معهداً لمريديها في حلب أشبه بمعاهد الإعداد الحزبي والسياسي استقطب العديد من أصحاب التعليم المتدني.
انتشرت في تلك المرحلة "معاهد الأسد للقرآن الكريم في سورية"، وادعت حينها كل من جماعة أبو النور والشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي إنه وراء إقناع النظام بتعميمها؛ وهي تجربة أراد النظام من خلالها تمرير رسالة يؤكد فيها عدم ابتعاده عن التدين على الرغم من علمانية الدولة من جهة، وحلقة لكي يفرغ فيها الدعاة شحناتهم الروحية والدعوية من جهة أخرى، وقد عين في منصب مدير لهذه المعاهد الدكتور محمد الحبش (مواليد 1962) العام 1989 وهو زوج حفيدة مؤسس الجماعة الشيخ أحمد كفتارو، والذي بدأ يلمع نجمه إضافة إلى الجيل الجديد في الجماعة.
إلا أن الطموحات السياسية تفجرت مع الانتخابات البرلمانية العام 2003، والتي أبدى فيها محمد الحبش رغبة واضحة عندما رشح نفسه لمجلس الشعب السوري، لكن المفاجأة كانت في إعلان شيخ الجماعة التبرؤ من هذا الترشيح ومن أفكاره "الليبرالية عن المرأة"، واعتباره لا يمثل الجماعة في الانتخابات ولا في أي مجال آخر. وعلى الرغم من التشكيك في صحة هذا البيان، كون صدوره تزامن مع مرض الشيخ، وكون إن الجماعة لم تعتد على إصدار مثل هذه البيانات، إلا أن هذا البيان كان مؤشراً لبوادر صراع داخل الجماعة بلغ ذروته في بداية الألفية الثانية. وكان أثار ما نسب إلى الشيخ بمباركته ترشيح كوليت خوري في الانتخابات بطلب من السلطات جدلاً كبيراً، ومع ذلك تمكن الدكتور محمد الحبش من الفوز معتمداً على لائحة مشتركة وشبكة علاقات نسجها مع تجار السوق.
وهكذا أصبحت الجماعة الكفتارية محصورة بمجموعة مؤسسات تعليمية لتلاميذ الشيخ من بقايا الصف الأول والثاني؛ يتصارعون على النفوذ فيما بينهم، في ما بدا نفوذ الجماعة يتآكل وتأثيرها يتراجع بين الأتباع ونجمها يتجه نحو الأفول. وتوزعت الجماعة على قياداتها التقليدية التي حافظت على منهج الشيخ "التعامل الإيجابي مع الحكومة الوطنية"، والسعي إلى تسلم مناصب حكومية، في الوقت الذي حاول فيه الدكتور حبش التميز عن خط النظام والنأي بنفسه عن ممارساته خلال الحراك الثوري طارحا ما يعرف بالطريق الثالث.

*خلاصة من بحث عبد الغني عماد 'سورية… الجماعات الصوفية والحركات الإسلامية'، ضمن الكتاب 66 (حزيران 2012) 'الإسلام النائم: التصوف في بلاد الشام' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى