سوريا المتشظّية.. أرقام المأساة
قد تكون الأزمة السورية أخطر كارثة حضارية يشهدها القرن الحادي العشرين، ليس من السهل الإحاطة بتداعياتها الهائلة ونتائجها التدميرية، إنسانياً واجتماعياً وسياسياً. وفي ما يتعدّى المراوحة الدولية التي تتجه نحو مزيدٍ من التعقيد والتناقض، في شأن مسارات الحل، ماذا تقول الأرقام حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية بعد مرور ستة أعوام؟
يعرّف «المركز السوري لبحوث السياسات» في تقريره «سوريا مواجهة التشظي!» (شباط 2016) مفهوم «التشظي» «بأنه عملية تمزيق حاد في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ضمن المجتمع الواحد، أو بين المجتمع وبقية المجتمعات على الصعيد العالمي. وتتبلور هذه العملية في شرذمة المؤسسات القائمة الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك انحلال السيادة وتعدد القوى القابضة على السلطة، وتبديد رأس المال الاجتماعي والثقافي، وتشتت الاقتصاد الوطني. ويشكل العنف الخارج عن السيطرة القاسم المشترك للمجتمعات التي تعاني هذه الظاهرة».
يرصد التقرير آثار الأزمة السورية خلال العام 2015، وقد أُنجز بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو جزء من سلسلة تقارير تغطّي فترات ربعية، وتبحث عن أثر الأزمة على التنمية في سوريا. طبق إطاراً تحليلاً شاملاً يتبنّى مفهوم التنمية الشاملة، التي محورها الإنسان، مستخدماً الطرق الكمّيّة والكيفية الحديثة بغية تقويم آثار الأزمة. يضعنا التقرير أمام نتائج مؤلمة معززة بالأرقام والجداول والرسوم البيانية، مستنداً إلى منهجية المقاربة بين «سيناريو الأزمة»، وهو تقدير الناتج المحلي الإجمالي الفعلي، وبين «السيناريو الاستمراري» الذي يمثل تقديراً للناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة ذاتها، لو لم تحدث الأزمة.
تبرهن الآثار الاقتصادية عن حالة الاقتصاد المتشظّي والمقسَّم الذي تهيمن عليه قوى التسلط المتقاتلة. أنتج التدمير المتواصل للاقتصاد السوري أرقاماً كارثية؛ قُدّر حجم الخسائر الاقتصادية منذ بداية النزاع حتى نهاية العام 2015 بنحو 254.7 مليار دولار أميركي. وتتضمّن هذه الخسائر خسارة الناتج المحلي الإجمالي (64.1 في المئة)، وتضرّر مخزون رأس المال (26.4 في المئة)، والإنفاق العسكري الإضافي للحكومة (5.7 في المئة). يشير التقرير إلى أن الاقتصاد السوري تابع انكماشه خلال الربعين الأولين من العام 2015، وبيِّنت الإسقاطات مزيداً من التراجع في النصف الثاني من العام ذاته. في العام 2014 سجل الانكماش (15.2 في المئة) مقارنة بالعام 2013 الذي شهد أيضاً نسبة قياسية للانكماش الاقتصادي السنوي وصلت إلى 36.5 في المئة مقارنة بالعام 2012. وقد أشارت التقديرات ربع السنوية إلى أن الانكماش بلغ 7.9 في المئة في الربع الأول، و1.8 في المئة في الربع الثاني مقارنة بالأرباع ذاتها من العام 2014. وكانت سوريا ستحقق طبقاً لتقديرات «السيناريو الاستمراري» معدل نمو سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي السنوي يبلغ 6.1 في المئة في العام 2011 و5.4 في المئة في العام 2012، و5.5 في المئة في العام 2013، و4.9 في المئة في العام 2014.
يحدّد التقرير القطاعات الرئيسة التي تساهم في خسائر الناتج المحلي الإجمالي المتراكمة حتى نهاية العام 2015 وهي: التجارة الداخلية فقدت 967 مليار ليرة سورية، وتمثل 23.2 في المئة من إجمالي الخسائر المتراكمة للناتج المحلي الإجمالي، وقطاع الخدمات الحكومية الذي بلغت خسائره 660 مليار ليرة سورية أي ما نسبته 15.9 في المئة من إجمالي خسائر الناتج. كما فقد قطاع الصناعات الاستخراجية 630 مليار ليرة سورية تشكل 15.2 في المئة من إجمالي الخسائر. أما قطاع النقل والاتصالات فقد خسر 585 مليار ليرة سورية أي ما نسبته 14.1 في المئة من الخسائر، وفقد قطاع الزراعة 483 ليرة سورية مشكلاً 11.6 في المئة من الخسارة. وبلغت خسائر القطاع المالي والعقاري 236 مليار ليرة سورية أو ما يعادل 5.7 في المئة من الخسارة الإجمالية للناتج المحلي الإجمالي.
يلفت التقرير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الزراعي حقق نمواً سنوياً إيجابياً بنسبة 7.5 في المئة مقارنة بناتج القطاع العام 2014. لكن هذا القطاع يخضع للظروف الأمنية والقواعد التي تضعها القوى المسيطرة على مختلف المناطق الزراعية. وفي هذا السياق لاحظ مُعدّو التقرير اعاقة عمل المزارعين في الوصول إلى الأسواق بحرية، فأجبروا على قبول الشروط المجحفة للجماعات المهيمنة، ما أدى إلى إفقار متزايد للعاملين في الزراعة. كما أدت السوق الزراعية المقسمة إلى انعدام الأمن الغذائي في العديد من مناطق البلاد، خصوصاً مناطق النزاع والمناطق المحاصرة. سهل ذلك – وفقاً للتقرير – حصول الانتهازيين المحليين والأجانب والمدعومين من أطراف القتال المختلفة، على ثروات ضخمة من خلال السيطرة على عملية استيراد المواد الغذائية أو تهريبها، وهذا أحد الجوانب المظلمة لاقتصادات العنف. على مستوى القطاع الصناعي أشارت الإسقاطات إلى تراجع هذا القطاع بنسبة 14.9 في المئة في العام 2015 مقارنة بالعام السابق، وإلى انكماش قطاع تكرير النفط العام بنسبة 13.8 في المئة. وشهد قطاع التجارة الداخلية في الربع الأول من عام 2015 انكماشاً بنسبة 5.3 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام 2014، وفي الربع الثاني انعكس الأداء النسبي الأفضل لقطاع الزراعة بشكل إيجابي على القطاع التجاري وارتفع ناتجه بنسبة 4.4 في المئة مقارنة بالربع المقابل من العام 2014. وفي ضوء العمليات العسكرية انعزلت الأسواق التجارية الداخلية، واحتكر العديد من تجار الحرب الأسواق الداخلية بحماية قوى التسلط المختلفة. وأدى غياب كل من سيادة القانون والمؤسسات الشفافة إلى انتشار الاقتصاد غير المنظم وازدهار اقتصادات العنف، بما في ذلك التهريب والسرقة. أما قطاع السياحة ونتيجة استمرار النزاع المسلح انهار بشكل كامل. ومن الملاحظات الخطرة التي يسجلها التقرير التدمير الضخم للممتلكات العقارية، بما في ذلك المنازل والممتلكات التجارية، كما تسببت الأزمة بإتلاف الوثائق العقارية في العديد من المناطق مما يهدّد حقوق الناس في ملكياتهم، وخصوصاً مع وجود مؤسسات ضعيفة وفاسدة.
شهد العام 2015 تراجعاً كبيراً في الاستهلاك العام بنسبة 33.1 في المئة مقارنة بالعام 2014. تراجع الاستهلاك الخاص – وفقاً للتقارير – بنسبة 17.4 في المئة في العام 2014 مقارنة بالعام 2013، وسجل انخفاضاً بنسبة 0.7 في المئة في الربع الأول من العام 2015 و0.9 في المئة في الربع الثاني، ثم تراجع بنسبة 3.3 في المئة في الربع الثالث و5.9 في المئة في الربع الرابع مقارنة بالأرباع ذاتها لعام 2014. في ما يتعلّق بكلفة المعيشة التي ترتفع بشكل كبير، سجل مؤشر أسعار المستهلك ارتفاعاً حاداً خلال الربع الأول من العام 2015 بلغ 19.8 في المئة في آذار مقارنة بشهر كانون الأول من العام 2014، وتأثر هذا الارتفاع بالزيادة في أسعار الوقود بنسبة 56 في المئة والخبز بنسبة 40 في المئة والغاز المنزلي بنسبة 45 في المئة. ومن الملاحظات التي يُوردها التقرير أن الأسعار في مناطق النزاع والمناطق المحاصرة تكون أعلى بكثير، ما يحقق هوامش من ربح كبيرة لتجار الحرب الذين يحتكرون الأسواق في هذه المناطق. ولعل المؤشر الأخطر حديث التقرير عن نمو كبير لقطاع العنف، ما أعاد هيكلة الاقتصاد على أساس الأنشطة المرتبط به، وعملت قوى التسلّط على تجنيد الناس بشكل مباشر للانخراط في الأنشطة غير القانونية مثل التهريب والاحتكار والسرقة والنهب وتجارة الأسلحة والاتجار بالبشر. وقد بلغت نسبة العاملين في هذه الأنشطة غير المشروعة العام 2014 نحو 17 في المئة من السكان الناشطين اقتصادياً.
ترتّب على الآثار الاجتماعية خسائر على صعيد «التشظي السكاني» نتيجة التهجير والنزوح واللجوء والهجرة وتزايد أعداد الوفيات والإصابات الناجمة عن النزاع المسلح. واستناداً إلى مسح حالة السكان لعام 2014 بلغ العدد الإجمالي للاجئين السوريين حوالى 2.58 مليون شخص، وخلال الربع الثاني ازداد عددهم بنحو 164.000 شخص. وكان من المتوقع أن يزداد عددهم خلال النصف الثاني من العام بسبب احتدام العمليات العسكرية لا سيما في المناطق الشمالية من البلاد، لتبلغ هذه الزيادة 177.000 شخص خلال الربع الثالث، و 187.000 شخص خلال الربع الرابع، وتالياً قُدِّر أن يصل العدد الإجمالي للاجئين إلى 3.11 مليون شخص في نهاية العام 2015. وفي نهاية العام 2015 قُدِّر عدد النازحين في سوريا بنحو 6.36 مليون شخص، مقارنة بــ 5.65 مليون نهاية العام 2014. ومن المؤشرات السكانية المُفجعة التي يلحظها التقرير مغادرة حوالى 45 في المئة من السكان في سورية أماكن إقامتهم الأصلية بحثاً عن السلامة والأمان، وذلك حتى نهاية 2015. وبلغ معدل التسرّب المدرسي العام 2015 نحو 45 في المئة في التعليم الأساسي. وأظهرت النتائج أن 42.7 في المئة من الأطفال في سن الدراسة لم يلتحقوا بمدارسهم في العام الدراسي 2013-2014، وتفاقمت هذه النسبة في العام الدراسي 2014-2015، حيث تخلّف عن الالتحاق بالتعليم 45.2 في المئة. وسجّلت الرقة ودير الزور أعلى معدل لعدم الالتحاق وصل إلى حوالي 95 في المئة. وكشفت سياسات الإفقار الناتجة عن الأزمة عن أن معدل الفقر الإجمالي يبلغ 85.2 في المئة مع نهاية 2015 مقابل 83.5 في المئة في العام 2014 و73.3 في المئة في العام 2013. ويغطي التقرير مؤشرات التعلم وتدهور رأس المال البشري، موضحاً أن قوى التسلط تستغل النظام التعليمي لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها ما يُسمّى «الدولة الإسلامية»، بهدف خلق ثقافة الخوف والكراهية ضد الآخر. على صعيد الخسائر البشرية، تُبين نتائج مسح حالة السكان، الذي أجري في منتصف 2014، أن 1.4 في المئة من السكان فقدوا حياتهم، 11.4 في المئة منهم أطفال؛ ما رفع معدل الوفيات من 4.4 بالألف العام 2010 لتصل إلى 10.9 بالألف العام 2014، وبحلول نهاية العام 2015، يصل عدد الجرحى إلى 1.88 مليون شخص، كما يُقدّر أن حوالى 11.5 في المئة من السكان تقريباً داخل سوريا تعرضوا للقتل، أو الإصابة، أو التشوّه نتيجة النزاع المسلح.
يحدّد التقرير مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي سارعت في الوصول للتشظي، من دون أن يغفل عن الدور الذي لعبته الأنظمة الاستبدادية ومؤسساتها، يضاف إليها التناقضات الإقليمية والدولية. فقدم عدداً من المقاربات الاقتصادية والاجتماعية لمواجهة التشظي، تنطلق من رؤى واضحة لمعالجة الآثار الدراماتيكية للأزمة السورية. ولعل المقترحات المدرجة في الجانب الاجتماعي تشكل القاعدة الأساس، إذ ترتبط بمستقبل المجتمع السوري وقد أشير إلى مسألتين: السعي لبناء جسور الثقة بين الفئات المستقطبة بناء على الحقوق؛ وتوفير الشروط التي تُعيد للأفراد والأسر الشعور بالأمان وتفكيك العوامل والقوى التي ترسخ ثقافة الخوف والقهر.
أدّى النزف الحاد الذي تتعرّض له سوريا اقتصادياً واجتماعياً إلى انهيارات نتـــج عنها ضياع رأس المال البــــشري الحالي والمحتمل وتفاقم الصراع على الهوية، ما يجعل مستقبل البلاد، ككيان وطني، محبطاً وسوداوياً، وفق الاستنتاج المأسوي الذي يسجله التقرير. فكيف تعوّض هــــذه الخسائر المهلكة؟
صحيفة السفير اللبنانية