مساحة رأي

سوريا بين إعادة ترتيب التوازنات واختبار النفوذ السياسي

محمد الشماع

التحولات في المشهد السوري لم تعد مجرد تغييرات عابرة، بل أصبحت جزءًا من عملية إعادة ترتيب شاملة للنفوذ الإقليمي والدولي. تداخلت الصراعات الداخلية مع التوازنات الخارجية، وباتت التحركات السياسية والعسكرية تسير بوتيرة غير تقليدية، حيث تختبر الأطراف الفاعلة حدود تأثيرها وسط حالة من الغموض الذي يسيطر على مسار الأحداث. دمشق تجد نفسها أمام واقع جديد، حيث تسعى إلى إعادة ضبط المشهد الأمني عبر دمج الفصائل المسلحة ضمن الجيش الوطني، وهو إجراء يحمل في طياته تعقيدات كبيرة تتعلق بتوحيد القرار العسكري، معالجة الانقسامات الداخلية، والتعامل مع الإرث الطويل للصراع. هذه الخطوة، رغم أنها تُطرح كإطار لإعادة الاستقرار، تحمل احتمالات تحولها إلى مصدر جديد للتوترات، إذ أن طبيعة العلاقة بين الفصائل والحكومة لم تتسم بالثقة الكاملة طوال السنوات الماضية.

في المقابل، تراجع النفوذ الإيراني داخل سوريا يطرح تحديات جديدة للحكومة السورية، حيث كانت طهران لاعبًا أساسيًا في إدارة الملف العسكري والدبلوماسي، لكن المتغيرات الأخيرة دفعت نحو انحسار دورها بشكل تدريجي. انسحاب بعض المجموعات المدعومة من إيران في مناطق معينة يعكس محاولة لإعادة رسم طبيعة التدخلات الخارجية، خاصة أن روسيا بدأت تأخذ موقعًا أكثر مركزية في ضبط التوازنات الداخلية. تركيا من جهتها تراقب هذا التحول بدقة، إذ أن أي إعادة توزيع للنفوذ الإقليمي سيكون له تأثير مباشر على استراتيجيتها في شمال سوريا، حيث لطالما اعتمدت في تحركاتها على توازنات معقدة تشمل التنسيق الأمني مع موسكو والتعامل بحذر مع الفصائل المحلية.

الموقف الدولي تجاه سوريا لم يتبلور بصورة واضحة، فبينما تحاول القوى الغربية إعادة النظر في سياساتها دون اتخاذ قرارات حاسمة، تبقى واشنطن في موقف رمادي، لا ترغب في تدخل مباشر لكنها تراقب التحركات السياسية والعسكرية من بعيد. فرنسا، التي كانت من أكثر الدول انخراطًا في الملف السوري، تتعامل بحذر مع مرحلة ما بعد العقوبات، حيث تسعى إلى تعزيز حضورها ولكن دون مواجهة علنية مع القوى الإقليمية الفاعلة. التحولات في العلاقات العربية مع دمشق تلعب دورًا غير مباشر في إعادة تشكيل المشهد، حيث تدرس بعض الدول الخليجية آليات إعادة الانخراط، لكن دون التزام كامل تجاه دعم أي مسار سياسي جديد.

في ظل هذا الغموض، لا تبدو ملامح المستقبل السوري محسومة، بل يخضع المشهد لاختبار مستمر للنفوذ، حيث تتحرك القوى الداخلية والخارجية وفق معادلات متغيرة، دون أن تتضح صورة النهاية بشكل قاطع. التوازنات الجديدة، وإن بدت وكأنها خطوات نحو استقرار محتمل، إلا أنها تحمل في جوهرها احتمالات مفتوحة لإعادة التصعيد أو حتى إعادة تعريف طبيعة التحالفات التي تحكم المشهد السوري منذ أكثر من عقد.

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى