سوريا: راحة البال.. ولا الذهب
كان عيسى يعد نفسه كل يوم بكوب القهوة الأميركية في المقهى العصري الذي يديره في قلب دمشق.
صباحاً، وحوالي الساعة العاشرة تحديداً، يكون قد بدأ نهاره، بكوب كبير من القهوة الأميركية السوداء المستوردة خصيصاً لسلسلة المقاهي التي يدير أحد فروعها. يتناول إلى جانبها بسكويتاً محمصاً من نخالة القمح.
هذا منذ عامين ونصف العام تقريباً. الآن يشرب قهوته الصباحية بعد إعدادها بكسل في جو مختلف تماماً. أمامه من التراس، المرتفع درجتين فقط عن الأرض، تصطف خمس أبقار من النوع الهولندي المهجن، وبينها تتوزع عدة عجول صغيرة، بعضها يفترش الأرض وبعضها الآخر يبحث بين أعشاب الحقل عما يأكله.
عالم عيسى الحالي، كان بمثابة نكتة سمجة، سابقاً وصار خلاصه. صباح يوم سبت، وقبل أن يهم بمغادرة منزله إلى المقهى، استوقفته زوجته لدقائق بباب المنزل. «اشتكت من أصوات القذائف الصاروخية، علماً أننا اعتدنا عليها، ثم اشتكت من قذائف الهاون، برغم أنها كانت اقل في تلك الأيام من الآن. واشتكت واشتكت وقالت إنها قلقة علي وعلى الأولاد».
يتذكر عيسى، خلال جلوسه بهدوء على كرسي قش صغير في مزرعة الأبقار، «كان من الأيام التي أغادر بها باكراً، لأن السبت يأتي مزدحماً في عملنا. قبلت كل شكواها وقلت لها سأفكر في الموضوع، وأقفلت الباب ورائي». نزل عيسى درج البناء وسار خطوتين على الطريق، حين تعدته سيارة سوداء مسرعة بالاتجاه ذاته. كانت السيارة من نوع مرسيدس وعليها صور الرئيس السوري، ولا يبدو من زجاجها شيئاً في الداخل. مضت ثوان كان فيها عيسى يتحرى وجهتها، حين تحولت إلى كتلة من نار ودخان ووجد نفسه هو الآخر ملقى على ارض الرصيف وأنفه ينزف.
مضت دقائق من دون أن يسمع شيئاً، حتى رأى زوجته مرمية فوقه تحاول أن توقظه. في اليوم التالي ركب ابن الثلاثين عاماً شاحنة متوسطة الحجم محملة بأثاث البيت وتوجه نحو قريته في الجبال.
سحب مدخراته واشترى للحقل الصغير الذي يمتلكه بقرتين بسعر لا يتجاوز 300 ألف ليرة سورية (ألفا دولار بسعر صرف تلك الفترة). ثم بدأ يعتاد نظام حياته الجديد. «استيقظ في الخامسة تقريباً مع بزوغ الضوء. احلب البقرتين، وأعد حليبهما في أوان وأوزعه بنفسي قبل السابعة صباحاً. وأعيد الكرة مساءً».
يستذكر عيسى بعد أن تمكن من شراء جهاز مستعمل لحلب الأبقار أسابيعه الأولى «كان أكثر ما يزعجني هي الروائح الصباحية. لم يكن شيئاً من هذا القبيل قد خطر ببالي طوال حياتي. أن استيقظ لأحلب بقرة حتى أعيش وأسرتي».. لكن للضرورة أحكاماً.
ويضيف «حين حصل التفجير، ووعيت على نفسي تقدمت باتجاه المكان برغم إصابتي»، كانت الجثث مبعثرة، وروائح الحريق وشواء اللحم تملأ الهواء. كانت الناس تصرخ وتتوعد وصوت الإسعاف يقترب ورصاص يطلق في الهواء لسبب لا أعرفه، كنت انظر وأقول لنفسي إن «كان من شيء يستحق أن استفيق من أجله مرة أخرى في اليوم التالي». نظرت إلى زوجتي التي لطالما تردد «راحة البال ولا الذهب» أن ساعة رحيلنا قد حانت.
بما لدى الزوجين من ذهب ومال مدخر، اشتريا، ما يتيح لهما تأسيس مشروع زراعي. وبعد أشهر من بدء الإنتاج، بدأت أسعار الحليب والأبقار معاً بالارتفاع. كان الحليب يرتفع تدريجياً مع ارتفاع أسعار الأعلاف، والتي كانت بدورها تخضع للدورة الاقتصادية التي يحددها سعر الدولار. أما الرؤوس الحيوانية فكانت تضمحل، وتخضع هي الأخرى لانعكاسات الحرب. ففي بلد كانت تملك 1.2 مليون رأس من الأبقار تقلص الرقم إلى 600 ألف، خلال عامين ونصف العام، فنفقت العديد من الأبقار بسبب الحرب، وأخرى بسبب الإهمال والجوع، وهرّبت عصابات التهريب قسماً كبيراً منها لدول الجوار، كما ذُبح بعضها الآخر بسبب الأزمات الغذائية والجوع في المناطق المحاصرة.
وأغرى ارتفاع الأسعار من جهة أيضاً بعض المزارعين ببيع ما لديهم، للحصول على المال، ما سمح لعيسى بتوسيع مشروعه، والنظر لأفق أوسع. «كنت أرغب في أن يزورني ابني في المقهى الذي كنت أديره في قلب دمشق، وأن يتباهى بصحن حلوى مدعوم وعناية الموظفات الخاصة»، يقول عيسى من دون حسرة «لكني أفكر لاحقاً، أن ما سبق من أيام قبل الحرب ليس كما جاء وسيأتي بعدها. ابني وزوجتي مطمئنان الآن أنني سأعود آمناً للمنزل، كل مساء، حاملاً حصتنا من الحليب الطازج، وهذا يماثل هذه الأيام مال الدنيا بالنسبة لهما».
صحيفة السفير اللبنانية