سوريا: رقعة الشطرنج الكبرى (بشار لقيس)

 

بشار لقيس

في العام 1983 وضع السياسي الأميركي زيبينغو بريجينسكي كتابه الشهير «رقعة الشطرنج الكبرى»، الكتاب البالغ من الصفحات ما يتجاوز المئتين، يتناول مسألة رئيسة: كيف السبيل لتحقيق السيادة الأميركية على العالم؟ بدت الحرب في تحليل بريجينسكي أقرب لمفهوم شتراوس التبادلي. الحرب احتفالية لغوية لا تحدث عبثاً أو مصادفة، هي لا تحظى دوماً بمسميات المقدس والمدنس، لكنها تحدث ويحدث معها اختبار جديد لصلاحية المقول. وللمصادفة، كانت سوريا عام 1983 نفسها تعيد اختبار مقولة الحرب وفق طارئات الداخل وتحولات الخارج. في السابع عشر من أيار وقعت «اتفاقية 17 أيار» بين لبنان واسرائيل في العام 1983، وهي الاتفاقية التي جاءت لتعلن انتقال لبنان إلى الفلك الأميركي – الإسرائيلي حصراً. سنة 1983 حملت هي الأخرى خزيناً لا يُستهان به من أزمات الداخل السوري: أحداث حماة كانت أكثر من نزاع بين خصمين متصارعين على السلطة، حماة مرتكز وعصب الدولة مع أمين الحافظ، كانت تعبّر عن شبكة مصالح طبقية سلطوية، مالية، ودينية ـ بدا الصراع في حماة اختباراً لشرطة الكلام.
في هذه المرحلة أعاد حافظ الأسد مأسسة سوريا وفق مقتضيات التحالف الموضوعي. لا يحيلنا التحالف الموضوعي إلى شراكات على مستوى المشاريع والرؤى، بقدر ما يعبّر عن تقاطعات من مصالح الضرورة. كان «إخوان دمشق» حلفاء موضوعيين بوجه طلائع «حماة – حمص» القتالية (الجناح العسكري «للإخوان المسلمين»)، الحركة السلفية/ السورية كانت حليفاً موضوعياً بشكل أو بآخر، درعا كانت عماد السلطة وعصبها ومعها بانياس وحلب. كانت التحولات الدولية السريعة سبباً آخر في المضي في سياسة الممكنات الموضوعية خارجياً. تحولات الاتحاد السوفياتي ورؤى غورباتشوف الديموقراطية، حرب الخليج الثانية، سياسات الاحتواء المزدوج التي مارستها أميركا، وتعزيز العلاقات التركية – الإسرائيلية، كلها عوامل دفعت سوريا للإسراع في تحويل خيوط السياسة هذه. لبنان كان حقل اختبار ثقة المجتمع الدولي بسوريا، وهو ما ستراه سوريا مجالاً لتطوير سياسات مناورة إقليمياً. كان اقتناع القيادة في دمشق بأن اتساع مجال المناورة إقليمياً سيُؤدي إلى تضاؤل المظلات الأمنية للقوى العظمى وسيكون بمقدور الدول الإقليمية خلق معيار دينامي يتسنى لها من خلاله الحصول على مواقع مهمة في السياسة الدولية.
العام 2000 كان عاماً مفصلياً، لقد تمكنت المقاومة في لبنان من تسجيل أول انتصار على العدو الإسرائيلي. شكلت نهاية الألفية الثانية بهذا المعنى قفزة للسياسات السورية الإقليمية. بدا نظام دمشق أكثر ثقة في استعادة دوره الفاعل. الانتفاضة الثانية كانت نوعاً من الانتصار لرهان دمشق لعقود خلت. أجلت الانتفاضة الثانية مرحلة «أوسلو» وحلم مدريد. كانت الأيام الأخيرة لعرفات شاهدة على ارتباك السياسات العربية الرسمية، ياسر عرفات الذي لم يأتلف يوماً ودمشق، وقف وحيداً يعاتب عروبة خلت، في خليجٍ أو كنانةٍ، لم تكن رام الله 2003 شبيهة ببيروت 1982، ولم يكن الزمن زمن تسويات، قُتل عرفات، ومعه الانتفاضة. لكن سفن السلاح السوري وحدها لم تنقطع عن رام الله البتة حتى ما بعد انتهاء الانتفاضة.
بدت خرائط التحولات الدولية مطلع الألفية الثالثة في تحول مطّرد، قبل مغيب شمس الألفية المنصرمة صدرت عن دار «أركتوغيا – تسنتر» في موسكو الطبعة الثالثة من كتاب أسس الجيوبوليتيكا لألكسندر دوغين، في صيغة موسعة. الكتاب المؤسس لمشروع الجيوبوليتيكا الأوراسية سيلقى اهتماماً في دوائر القرار في سوريا. بدا المشهد المتوسطي خلال العقد الأول من الألفية الجديدة منوطا بتوجهات ثلاثة. الاتجاه الأميركي المتقدم بقوةِ الحرب على الإرهاب، التوجه الأوروبي الباحث عن دور في حوض المتوسط من خلال المشاريع الأوروأفريقية وحوض المتوسط. وروسيا الأوراسية، والتي ربما ستؤول بتركيا – الناتو للانكفاء.
لقد سمع الأميركيون منذ ما قبل اليوم الأول من الهجوم على بغداد من أحد الموفدين السوريين لواشنطن عبارة مفادها: إن سقوط بغداد سيدفع بنا للعب دور جنوني في المنطقة، بغداد ليست بيروت، وسقوطها يعني سقوط العمق الاستراتيجي لسوريا. إن عملية كهذه لا محال ستدفع بالمنطقة لحافة الهاوية، وهي الهاوية التي ستعني أن على كل من اللاعبين الدوليين تحمّل مسؤوليته. لم يكن لفرنسا ـ الإمبراطورية الهرمة – الحظوة والهيبة التي جدّ أصدقاؤهم الأميركيون في فرضها. الفرنسيون لاعبو أوراق لا يملكونها. بدت المشاريع الفرنسية (الشراكة الأوروبية – المتوسطية، والشراكة الأوروبية وشمال أفريقيا) مشاريع عاجزة عن احتواء السياسات السورية. تعرف سوريا جيداً أهمية جدار المتوسط بالنسبة لأوروبا. إن أي فوضى في جدار المتوسط ستؤول دفعاً لمشاكل العالم الإسلامي بأسره ناحية الضفة الأوروبية. في حرب تموز العام 2006 (الحرب الإسرائيلية على لبنان) كان الأوروبيون راغبين بانتصار إسرائيل، ومتخوفين في الآن نفسه من انكسار «حزب الله». إن انكسار «حزب الله» في لبنان قد يفتح الساحة اللبنانية على احتمالات فوضى غير منضبطة ستدفع كلفتها أوروبا. ستنعكس هذه الهواجس في شكل العلاقة المرتبكة أصلاً في ضفتي المتوسط.
العام 2004، كانت سوريا قد وقعت مبدئيا على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، اعتبر الاتحاد وقتها أن الظروف السياسية غير مؤاتية لتنفيذ الاتفاق. عام 2009 وافقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ـ بالإجماع – على توقيع اتفاقية الشراكة مع سوريا. ردت سوريا على المبادرة بطلب بعض الوقت لبحث الاتفاقية بصورة إضافية. سياسات بينية منفتحة على المستوى الاقتصادي الداخلي، والسياسي، بمنحى أقل وتيرة، كان يقودها بشار الأسد مطلع العقد الأول من القرن الراهن. بدت هذه السياسات مثار نقاش وجدل دائمين في سوريا، كان عليه موازنة الانفتاح بشقيه السياسي والاقتصادي. الانفتاح السياسي على تركيا لم يكن ليتجاوز تحيّزات الحرب الباردة للدولتين بالرغم من التقارب الظاهر طيلة ما يقارب العقد. تركيا الرافضة نقل نفط قزوين عبر ميناء نوفوروسيسك الروسي إلى المتوسط، كانت ملتزمة تحيّزها ودورها. كان الانفتاح الاقتصادي في منطقة الحزام التركي السوري نوعاً من المغامرة للطرفين.
لاختبار العنف في سوريا لغته وقانونه هو الآخر، بدا كل من النظام والمعارضة جاهزين لاختبار سلطة العنف على أرض سوريا. كانت قراءة النظام منذ الأيام الأولى متأتية من فهمه لدور سوريا الإقليمي والدولي، ومن رهانه على حلفاء الدم والنضال في لبنان وفلسطين والعراق. رهان الأسد على مواقف حليفيه الإسلاميين «حزب الله» و«حماس» كان بنظره كفيلاً لسحب بساط الشرعية من تحت أقدام أي تحرّك مناوئ. هو خبر «حزب الله» في جبهات قتاله السياسية قبل أن يكون رئيساً، مثلما خبر «حماس» في جبهات قتالها في الـ2006 (ما عُرف بانقلاب غزة) وفي الـ2009 بمواجهة اسرائيل، كان الأسد في حرب غزة 2009، قد شكل خلية طوارئ لمتابعة التطورات الميدانية والسياسية يوماً بيوم. وعند انتهاء الحرب أبلغ الأسد قيادة «حماس» أن انتصارهم بالنسبة لسوريا أبلغ من انتصار «حزب الله» في جنوب لبنان. كان لهذه العلاقة والصلة الأثر على مستوى الساحة السورية. العام 2009 تعهّد «الإخوان المسلمون» في سوريا بعدم ممارسة أي نشاط سياسي في سوريا وهو تعهّد سرعان ما محته عجلة الأزمة الأخيرة.
بدا العام 2010 أن لكل من النظام والمعارضة المسلحة استراتيجيته في اختبار العنف. كانت سنوات الجهاد في العراق قد مكّنت المجاهدين من بلورة بعض الرؤى القتالية في مواجهة سلطة الدولة المنظمة. يُسجّل لكتاب «حرب المستضعفين» لروبرت تابر الحضور الأقوى في شبكات «أنصار المجاهدين». الكتاب المُستوحى من تجارب فييتنام والصين وكوبا، صار منهاج الدعوة المسلحة وديدنها. تقوم استراتيجية هذا الكتاب على ما عُرف باستراتيجية «الوحش والبرغوث» كنوع خاص من حروب العصابات، بإمكان بعضٍ من التشكيلات الصغرى إنهاك الدولة المنظمة باستخدام الحد الأدنى من القوة وبشكل فوضوي ومنتشر. هذه المجموعات التي ستبتدئ بلسعات غير مؤثرة، سرعان ما ستتحوّل الى ظاهرة مرضية ملتهبة وقاتلة.
هي الحرب على سوريا أو في سوريا، زحام في المشاريع والأفكار والأخبار، لاعبون من كل حدب وصوب، مراهنون حذقون، مراهقون مغامرون، مقاتلون مندفعون، وفوضى يتبادل فيها المتخاصمون شرطة القول والنار.
ما شِرطة القول الجديد؟ في رقعة الشطرنج الكبرى قلة من اللاعبين يعرفون أن أصعب الألعاب وأخطرها تلك التي تحترف حافة الهاوية. هاوية تقف على حافتها المنطقة وتطلعات ما وراء البحار، بإمكان جندي حسم معركة وتغيير خريطة، لكن ذلك يتطلب وضوحاً في الخيار والقرار. ماذا يريد الخصم وماذا أريد؟ ما الذي سيلي اللحظة الآن والبرهة؟
في خطة أليكسندر أليخين، أحد أشهر لاعبي الشطرنج مطلع القرن المنصرم، يحدث أن تنطلق لعبة الشطرنج بانفتاح احتمالاتها على مصرعيه، يهاجم الطرفان، ينطلق الجندي والمجنونُ والحصانُ، فوضى من المتراكبات تشوب احتمالات اللاعبَين، لكن القادر وحده على احتساب خريطة احتمالات الخصم جدير بالانتصار. هكذا تبدو سوريا اليوم ومعها المنطقة، لا يكفي أن نستمع لما يقوله الفرقاء، ثمة صخب في ما لا يُقال، قد يكون جديراً بنا سماعه وتدبره.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى