مساحة رأي

سوريا ساحة الصراع المفتوح بين المصالح الإقليمية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط

محمد الشماع

من يظن أن الصراع على سوريا يقتصر على النفوذ المحلي، أو أنه مجرد تنافس بين الفصائل المسلحة، يُغفل حقيقة أعمق وأكثر تعقيدًا: سوريا ليست مجرد دولة عالقة في دوامة النزاعات، بل هي محور استراتيجي في خارطة إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يخدم مصالح القوى الكبرى. والواقع أن المشروع الذي بدأ يتبلور بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ لم يكن يهدف فقط إلى تغيير الأنظمة السياسية، وإنما إلى إعادة تشكيل جغرافيا النفوذ وإرساء قواعد جديدة للسيطرة الإقليمية.

الخطوط الفاصلة بين القوى الكبرى لم تُرسم على طاولات المفاوضات، بل على الأرض، عبر القصف الجوي، التحالفات المتبدلة، والسيطرة الجغرافية على المناطق الحيوية. فإسرائيل، التي لطالما نظرت إلى سوريا بوصفها امتدادًا مباشرًا لمصالحها الأمنية، لم ولن تسمح لقوة إقليمية كتركيا بأن تفرض هيمنتها عبر أدواتها العسكرية والسياسية. والمناطق التي تمثل أهمية استراتيجية لإسرائيل الجنوب السوري، ممر التنف، والساحل السوري هي ليست مجرد مساحات جغرافية، بل نقاط ارتكاز في مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث تتداخل الحسابات الأمنية بالخطوط الاقتصادية ومسارات التجارة الدولية.

الهندسة الجيوسياسية للصراع السوري

إن كل خطوة عسكرية أو سياسية تُنفذ على الأرض السورية ليست منفصلة عن سياق إقليمي أكبر، بل هي جزء من معادلة جيوسياسية معقدة، حيث يتشابك النفوذ الإقليمي والدولي بطرق تفرض واقعًا جديدًا على الأرض.

الجنوب السوري، على سبيل المثال، ليس مجرد ساحة للصراع بين الفصائل أو منطقة ذات قيمة سياسية عابرة، بل هو عمق استراتيجي لإسرائيل، يشكل درعًا أمنية لحدودها الشمالية، وهو ما يفسر الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بضمان عدم سيطرة أي قوى غير منضبطة عليه. أما ممر التنف، فهو يمتد خارج الحسابات العسكرية المباشرة ليصبح نقطة وصل حيوية بين مناطق النفوذ الغربية والإقليمية، حيث تسعى إسرائيل إلى استخدامه لتحقيق مشروع “ممر داود”، وهو عبارة عن شريط نفوذ يمتد عبر الشرق الأوسط لضمان عمق استراتيجي طويل الأمد.

أما الساحل السوري، فهو البوابة البحرية التي لا تنظر إليها إسرائيل على أنها منفصلة عن مصالحها، بل تراها امتدادًا اقتصاديا وأمنيا لمنظومتها الإقليمية، حيث تتلاقى خطوط التجارة والطاقة مع المصالح الجيوسياسية الكبرى في البحر المتوسط. السيطرة على هذا الساحل تعني التحكم في حركة التجارة، وتعزيز النفوذ البحري في معادلات الصراع الدولي.

القصف الإسرائيلي.. إعادة رسم الخطوط بالقوة

القصف الإسرائيلي على مناطق قريبة من القصر الجمهوري في دمشق لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل جاء كتأكيد واضح على أن مستقبل سوريا لن يتحدد إلا وفقًا لحسابات القوى الكبرى. لم تكن الرسالة مقتصرة على الردع العسكري، بل كانت إعلانًا واضحًا بأن كل السيناريوهات المستقبلية في سوريا ستُكتب تحت سقف المعادلات الإقليمية التي ترسمها إسرائيل والقوى الأخرى الفاعلة.

هل يدرك الداخل السوري طبيعة الصراع؟

المشهد السوري يزداد تعقيدًا، لكن التساؤل الأهم يبقى: هل يدرك السوريون أنفسهم طبيعة الصراع الدائر؟ أم أنهم لا يزالون عالقين في التحليلات التقليدية التي ترى الأزمة مجرد مواجهة بين الأطراف المحلية؟ الحقيقة أن الحل السياسي في سوريا لن يأتي عبر مفاوضات داخلية فقط، بل يتطلب فهمًا أعمق لديناميكيات المنطقة.

أي مشروع وطني لإنقاذ سوريا من حالة الصراع الدائم لا يمكن أن يُبنى بمعزل عن هذه الحسابات، بل يجب أن يكون هناك إدراك للواقع الجيوسياسي الذي يتحكم في مسار البلاد. يجب أن يكون الخطاب السوري أكثر وعيًا بطبيعة المعادلات الإقليمية، وأكثر إدراكًا لحجم التدخلات الخارجية التي تعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة.

نحو رؤية مستقبلية أكثر وعيًا

سوريا ليست مجرد دولة في أزمة، بل هي ساحة لإعادة تشكيل توازنات إقليمية ترسم مستقبل المنطقة لعقود قادمة. الفاعلون المحليون بحاجة إلى تبني استراتيجية واعية قادرة على التعامل مع هذا الواقع، عبر تعزيز الخطاب الوطني، وإدراك أن المرحلة القادمة تتطلب قراءة دقيقة للمشهد تتجاوز ردود الفعل اللحظية.

فهل يدرك الداخل السوري حجم الرهانات؟ أم سيظل المشهد محكومًا بمصالح القوى الخارجية التي تتلاعب بمستقبل البلاد؟ سوريا بحاجة إلى رؤية تتجاوز حالة الانفعال السياسي، رؤية تبني موقفًا حقيقيًا تجاه المعادلات التي تُرسم بعيدًا عن أعين الشعب السوري نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى