افتتاحية الموقع

سوريا في مفترق النفوذ: قراءة تحليلية لمستقبل تقاسم السيطرة الإقليمية والدولية حتى أبريل 2025

ماهر عصام المملوك

منذ اندلاع الصراع السوري في العام 2011، تحوّلت سوريا إلى ساحة تجاذب بين أطراف إقليمية ودولية، تسعى كل منها لتأمين نفوذها الجيوسياسي والاستراتيجي في قلب المشرق العربي. ومع مرور أكثر من عقد على تفكك الدولة المركزية، صار تقاسم النفوذ واقعًا لا يمكن تجاهله، بقدر ما هو محل جدل حول ديمومته أو زواله. أما اليوم، وبعد سقوط النظام السوري في أواخر 2024، فإن تساؤلات جديدة تُطرح حول مستقبل هذا النفوذ: هل نحن أمام إعادة تشكيل للخريطة السورية وفق توازنات جديدة؟ أم أن هذا المشهد المتعدد الأطراف قد بلغ ذروته، وبدأ مرحلة انكماش أو إعادة تموضع المرحلة .

نحاول هنا ان نحلل بدقة وحياد معطيات المشهد السوري كما استقر حتى أبريل 2025، ونستعرض أدوار القوى المنخرطة فيه، لنبحث ما إذا كان مستقبل تقاسم النفوذ حقيقة راسخة أم مرحلة انتقالية في طور التغير.

ففي الثامن من شهر ١٢  2024، شهدت دمشق تحولًا جذريًا تمثل في سقوط نظام بشار الأسد، بعد هجوم منسق شنته “هيئة تحرير الشام” وفصائل معارضة أخرى بدعم تركي مباشر وتواطؤ غير معلن من أطراف إقليمية. فرّ بشار الأسد إلى روسيا حيث منحته موسكو اللجوء السياسي، لتطوى بذلك مرحلة امتدت نحو 23 عامًا من حكمه.

تداعيات هذا السقوط لم تكن داخلية فقط، بل امتدت إلى موازين القوى الخارجية. فروسيا التي كانت الراعي الرئيس للنظام، وجدت نفسها في موقف دفاعي، خاصة بعد استنزافها العسكري في أوكرانيا وتراجع قدرتها على تمويل وإسناد العمليات في سوريا. وإيران من جانبها، خسرت ركيزة محورية من أدواتها في محور “الممانعة”، وإن لم تتخلَ بعد عن النفاذ في العمق السوري من خلال الشبكات الأمنية والميليشيات.

فبعد سقوط دمشق، برزت “هيئة تحرير الشام” كفاعل رئيسي، بسطت سيطرتها على إدلب وأجزاء واسعة من ريفي حلب وحماة. وتم الاعتراف بها كقوة أمر واقع في مؤتمر “نصر الثورة” الذي عُقد في أنقرة في يناير 2025. دعمت تركيا الهيئة سياسيًا ولوجستيًا، وسعت إلى توسيع نفوذها عبر “الحكومة المؤقتة” التي تعمل بتنسيق وثيق مع الفصائل الموالية لها.

وبالمقابل تسعى أنقرة إلى بناء حزام نفوذ دائم شمالي سوريا، يشكل امتدادًا جيوسياسيًا واقتصاديًا لأمنها القومي، وتعتبر هذا النفوذ ورقة تفاوض حيوية مع روسيا وإيران، كما يساهم في كبح التمدد الكردي.

أما بخصوص شمال شرق سوريا (قسد والولايات المتحدة) فشهد هذا الإقليم تغيرات حادة مطلع 2025، إثر إعلان انسحاب جزئي للقوات الأميركية من قواعد في الحسكة والرقة، ما أضعف موقف “قوات سوريا الديمقراطية”. استفادت تركيا من الفراغ، ووسّعت نطاق عملياتها في تل رفعت ومنبج، بينما حافظت واشنطن على وجود رمزي في دير الزور، ضمن استراتيجية احتواء النفوذ الإيراني ومنع تمدد تنظيم “داعش”.

رغم تراجع الدعم العسكري الأميركي، لا تزال “قسد” قوة محلية فاعلة، لكنها باتت في موقف دفاعي، تبحث عن ترتيبات سياسية مع القوى العربية والكردية الإقليمية، في محاولة لإعادة التموضع ضمن النظام السوري الجديد.

وبالعودة إلى الجنوب السوري (درعا – السويداء – الجولان) ومع انهيار السلطة المركزية، شهد الجنوب السوري انفلاتًا نسبيًا، تزايد فيه نفوذ الفصائل المحلية، خاصة في درعا، مع عودة محدودة لبعض الشخصيات المعارضة بدعم أردني وسعودي.

أما في السويداء، فقد تعزز النفوذ الدرزي الذاتي، بينما كثّفت إسرائيل نشاطها الاستخباراتي واستهدافاتها الجوية للمواقع الإيرانية في الجنوب السوري، تحت غطاء “الأمن الوقائي”.

وبالعودة إلى  الوسط والبادية (بين النفوذ الإيراني-الروسي المشترك)

ورغم خسارة دمشق، ما تزال إيران وروسيا تحتفظان بنفوذ في العمق السوري، خصوصًا في تدمر، البوكمال، ومطار التيفور، من خلال ميليشيات محلية وأخرى عراقية وأفغانية. موسكو انسحبت جزئيًا من بعض قواعدها الجوية، لكنها أبقت على قاعدة حميميم كمنصة استراتيجية على المتوسط.

وفي نفس السياق بخصوص الحضور العربي والعودة المشروطة إلى المشهد السوري فلقد شهدت القمم العربية منذ 2023 تحولات في النظرة إلى الملف السوري، حيث دعمت السعودية، مصر، والإمارات عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية بشروط تتعلق بالإصلاح السياسي، ووقف التمدد الإيراني.

لكن سقوط النظام أوجد فراغًا ملأته قوى محلية وإقليمية بسرعة. سعت بعض الدول الخليجية المؤثرة  إلى دعم ترتيبات انتقالية من خلال مؤتمر الرياض 2025، حيث تم الاتفاق على مبادئ دعم حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، وتشجيع مشاريع إعادة الإعمار في مناطق “ما بعد الأسد”، خصوصًا في الجنوب والشمال.

وبالنسبة إلى إسرائيل فلقد كثّفت منذ مطلع 2025 عملياتها العسكرية في العمق السوري، مستهدفة قواعد إيرانية في البادية وحمص، مع صمت روسي لافت. تعمل تل أبيب على توظيف علاقاتها مع روسيا، والأردن، وواشنطن لضمان أمنها على الجبهة الشمالية.

وأما الصين فقد دخلت على الخط اقتصاديًا، مستفيدة من الفراغ الروسي. وقّعت بكين اتفاقيات أولية مع الحكومة الانتقالية بشأن البنية التحتية، ضمن “مبادرة الحزام والطريق”، وتسعى لاستثمار الموانئ السورية وإعادة إعمار مناطق في اللاذقية وحلب.

والسؤال الذي يدور في الأفق الان هل نحن أمام تقاسم نفوذ دائم أم متغيّر؟

بالمراجعة الدقيقة لمشهد 2025، يمكن رصد عدة خصائص:

  1. تعدد الجهات المتداخلة: حيث لم تعد هناك جهة مهيمنة واحدة، بل مجموعة قوى تتقاطع وتتنافس وتتحالف ظرفيًا.
  2. استقرار مناطق النفوذ: المناطق تبدو وكأنها استقرت نسبيًا، ولكن دون اتفاق سياسي شامل.
  3. تحول في طبيعة التحالفات: الانتقال من تحالفات أيديولوجية إلى تحالفات وظيفية (مثل تحالفات المصلحة بين تركيا وروسيا، أو بين قسد وقوى عربية).

ونعود الآن لنستعرض  بعض السيناريوهات المستقبلية التي تعمل عليها بعض الدول صاحبة النفوذ والمصالح الجمى في سوريا وهي :

السيناريو الأول:

تقاسم مستقر طويل الأمد

  • كل قوة تكرّس نفوذها في منطقة معينة.
  • الفيدرالية تصبح أمرًا واقعًا غير معلن.
  • سوريا تتحول إلى دولة لامركزية بحكم الأمر الواقع.

السيناريو الثاني:

تحوّل نحو مركزية انتقالية

  • في حال نجاح الحكومة الانتقالية في توحيد البنى العسكرية والإدارية بدعم عربي ودولي قد يترافق ذلك مع مؤتمر دولي جامع لإعادة تشكيل الدولة السورية.

السيناريو الثالث:

إعادة انفجار النزاع

  • في حال تفاقم الصراعات بين القوى المحلية، أو تصاعد الاحتكاك التركي-الإيراني، أو عودة داعش.

يعيد ذلك سيناريوهات التفكك والتدخل الخارجي الواسع.

في ملخص القول ،المشهد السوري بعد أبريل 2025 لا يُظهر تقاسم نفوذ تقليدي بقدر ما يكشف عن فسيفساء نفوذ متحرك، تتداخل فيه الاعتبارات الجغرافية مع الديناميكيات العسكرية، والمصالح الاستراتيجية مع الموازنات الدولية. ومستقبل هذا التقاسم يظل مفتوحًا على الاحتمالات، رهنًا بما إذا كانت سوريا ستدخل فعليًا في مرحلة انتقالية مستقرة، أم أنها ستبقى ساحة صراع وظيفي تتقاطع فيها حسابات الكبار.

ما بين وهم الاستقرار وحقيقة الفوضى المنظمة، تبقى سوريا شاهدًا على واحدة من أعقد تجارب تقاسم النفوذ في العصر الحديث.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى