
تُعد سوريا من أكثر الدول التي عانت من تدخلات القوى الإقليمية والدولية خلال المئة عام الماضية، نتيجة لموقعها الجيوسياسي بالغ الأهمية، وثرواتها الطبيعية، وعمقها الحضاري. فمنذ تفكك الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، خضعت سوريا لانتداب فرنسي مباشر عام 1920، إيذانًا بمرحلة طويلة من الوصاية الأجنبية بأشكال مختلفة. ومنذ ذلك الحين، لم تنعم البلاد باستقلال سياسي فعلي خالٍ من التأثيرات الخارجية.
مع جلاء الفرنسيين عام 1946، دخلت سوريا عهد الانقلابات العسكرية المتكررة، التي غالبًا ما كانت مدفوعة بدعم قوى إقليمية أو دولية.
كان انقلاب حسني الزعيم عام 1949 مثالًا مبكرًا على هذا التدخل، حيث كشفت وثائق لاحقة عن دعم أمريكي له لتأمين مصالح تتعلق بخط أنابيب النفط “تابلاين”. وهكذا، باتت السلطة في سوريا لا تُنتج من الداخل بقدر ما كانت تُدار من الخارج عبر أدوات محلية.
في العقود اللاحقة، تكررت هذه الظاهرة، فقد مثّل استلام حزب البعث للسلطة عام 1963 نقطة تحول نحو نمط جديد من الارتهان السياسي، حيث أُعيد تشكيل الحكم وفق علاقات أيديولوجية وعسكرية مع الاتحاد السوفيتي، ومن بعده روسيا الاتحادية، لضمان البقاء في السلطة في مقابل الامتثال الاستراتيجي. هذا النمط استمر مع حكم حافظ الأسد ثم بشار الأسد، حيث تعمقت التبعية لمحاور خارجية مقابل الدعم العسكري والسياسي.
اندلاع الثورة السورية عام 2011 كشف بشكل فاضح مدى هشاشة السيادة الوطنية، حيث تحولت سوريا إلى ساحة صراع مفتوح بين قوى دولية (كالولايات المتحدة وروسيا) وإقليمية (كإيران وتركيا والسعودية وقطر)، وكل منها يدعم طرفًا محليًا وفق مصالحه. نتج عن هذا تشظي القرار السياسي السوري وتفكك النسيج الاجتماعي، وتحول الفاعلين المحليين إلى وكلاء منفذين لأجندات الخارج.
الثروات السورية، من نفط وغاز وفوسفات ومياه وزراعة، تحولت من فرصة للنهوض إلى سبب في زيادة التدخلات والنزاعات، إذ باتت مناطق النفوذ تُرسم بحسب مواقع هذه الموارد. كذلك، فإن الموقع الجغرافي الذي كان يومًا ما جسراً للتكامل الإقليمي، تحول إلى معبر للصراعات والنفوذ العسكري.
في ظل هذا التاريخ الطويل والممتد من التبعية والتدخل، يبرز السؤال المفصلي: إلى متى يبقى الشعب السوري رهينة لهذه السياسات الخارجية ووكلائها المحليين؟
الجواب ليس بسيطًا، لكنه يرتبط بعدة عوامل أهمها:
- إرادة داخلية جامعة ترفض الانقسام الطائفي والسياسي وتضع مصلحة الوطن فوق الولاءات الفئوية.
- بناء مؤسسات وطنية مستقلة تمتلك شرعية شعبية حقيقية وقادرة على مواجهة الضغوط الخارجية.
- دور مجتمعي فاعل يعيد صياغة الهوية الوطنية بعيدًا عن أدوات الاستقطاب الإقليمي والدولي.
- تحول في إدراك النخب السياسية من عقلية “التبعية للبقاء” الى “الاستقلال للمستقبل”.
وأخيراً وليس اخراً ، لا يمكن لسوريا أن تنهض وتستعيد سيادتها دون مشروع وطني جامع يعيد تعريف السياسة كخدمة للمواطن لا كوسيلة للارتزاق والارتهان من والى الخارج ، وهذا يتطلب وقتًا، لكنه لا يتحقق دون إدراك عميق بأن استمرار الوصاية الخارجية هو عائق جذري أمام استقرار سوريا وتقدمها اليوم وفي المستقبل .
فلولا أعداء الداخل لما تجرأ عليك أعداء الخارج …
بوابة الشرق الأوسط الجديدة