سوريا من دولة بلا أمّية.. إلى أجيال بلا تعليم
في العام 2010 كانت المحافظات السورية تحتفل تباعاً بخلوّها من الأمية، وتتنافس بين بعضها البعض بعدد طلابها المتفوقين على مستوى القطر، لكن هذه المنافسة انقلبت عكسياً مع اندلاع الأزمة، وباتت المحافظات تتنافس في ما بينها بعدد الطلاب المتسربين الذين يمضون طفولتهم بلا علم أو تعليم.
الأزمة السورية تركت أثراً عميقاً في الواقع التعليمي لأطفال سوريا، وحتى يافعيها وشبابها، إذ تضرَّرت مدارس أو دمرت بشكل كلِّي، كما لوحظ انتشار ظاهرة التسرّب المدرسي منذ مطلع العام 2012 بشكل فاضح، خصوصاً بين الطلبة المهجرين من محافظاتهم.
ويقول الطفل محمد حماد، من محافظة حلب، إنَّه يغيب عن المدرسة منذ ثلاث سنوات، ويعمل في قطاف الليمون خلال الموسم، وبعده ينصرف لتعلم ميكانيك السيارات.
لا يُخفي حماد رغبته بالعودة إلى مقاعد الدراسة، موضحاً أنه يشعر بالوحدة عندما يرى رفاقه الطلبة ذاهبين إلى المدرسة فيما هو ذاهب إلى العمل. ويؤكد استعداده للعودة إلى المدرسة إذا أُمّنت له احتياجاته، كما أنه يفضل الانضمام إلى مدرسة صيفية في هذه الأيام لكي تعوّضه عمَّا فاته خلال السنوات الماضية.
ووفق إحصائية أجريت في الداخل السوري، فإنَّ طالباً من أصل كل اثنين مهجَّرين لا يذهب إلى المدرسة، يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة المتسرّبين في المناطق المضيفة، أو التي لم يهجَّر أهلها، وخصوصاً في أحياء السكن العشوائي، حيث تشير المصادر إلى أن عددهم في اللاذقية وطرطوس وصل إلى سبعة آلاف طالب، وهو رقم كبير جداً مقارنة مع مرحلة ما قبل الأزمة السورية، حيث كان عددهم في أسوأ الأحوال لا يزيد على 700 طالب.
وفي الساحل السوري وحده، توجد قرابة 80 ألف طالب وافد انخرطوا في المدارس الحكومية ويتابعون تعليمهم، بينما يوجد مثلهم منقطعين عن الدراسة تماماً. وسجلت منطقة رأس البسيط شمال اللاذقية أعلى نسبة تسرّب بين الطلبة الوافدين، وكذلك في منطقة بصيرة على شاطئ محافظة طرطوس.
أسباب كثيرة أدّت إلى التسرّب من المدرسة، يأتي في مقدمتها الفقر، بحسب ابتسام فرحات، وهي مشرفة على مبادرة مجتمعية تحمل عنوان «علّمهم بمحبة»، وتعنى بتعليم الأطفال المهجرين.
وتقول فرحات: «يعاني الأطفال من صعوبة تأمين لوازم المدرسة من قرطاسية وثياب، كما أن بعضهم يعتمد على عمالة الأطفال من أجل تأمين مصاريف المنزل، والمدارس لم تعد تتسع لجميع الطلبة بعد التضخّم السكاني في مناطق الاستضافة، حيث وصل العدد في الصف الواحد إلى أكثر من 50 طالباً، خصوصاً في الصفوف الابتدائية».
يُضاف إلى ما قالته فرحات إنَّ بعضهم لم يتمكَّنوا من الانخراط مع المجتمعات المضيفة، في حين لدى بعضهم هواجس غير مبرَّرة.
الدولة السورية، عبر مؤسساتها، عملت جاهدة على استمرار العملية التعليمية، حتى في تلك المناطق التي لا تخضع لسيطرتها، وقد أكد ذلك محافظ إدلب السابق صفوان أبو سعدى، حين أشار إلى أنَّ مديرية تربية إدلب ترسل الكتب المدرسية إلى مدارس الريف، وخصوصاً تلك الواقعة في أرمناز، كفرتخاريم، وسلقين.
إلَّا أنَّ جهود الدولة وحدها لا تكفي، فهذه المشكلة باتت معقدة جداً وتحتاج إلى تدخل المنظمات المحلية والدولية. ويقول ناشط في المجتمع المدني السوري إنَّ المنظمات الدولية لا تولي الكثير من الاهتمام للجانب التعليمي، فهي تخصص له فتات ما ترسله إلى الداخل السوري، بينما تصرف الملايين على أنشطة وفعاليات من دون فائدة. ويعتبر أنَّه من الضروري اليوم أن تخصِّص المنظمات جزءاً كبيراً من عملها لافتتاح مدارس صيفية من شأنها تعويض الطلبة المتسرّبين ما فاتهم، تمهيداً لدمجهم مع أقرانهم في المدارس النظامية، مع انطلاق العام الدراسي الجديد، والعمل على تأمين مدارس إضافية، فهذه المشكلة تحتاج حلولاً إبداعية لا تقليدية.
إن بقاء هؤلاء الأطفال الطلبة متسربين من شأنه أن يقضي على مستقبلهم، في وقت يجلس فيه العالم الإنساني شبه متفرج عليهم.
وتقول الاخصائية في علم نفس الأطفال نيرمين حداد إنَّ غياب الطفل عن مقاعد الدراسة سيجعله يشعر بأنه بلا قيمة، وتدريجياً ستتلاشى ثقته بنفسه مع ازدياد في معدل المشكلات السلوكية، وقد يتطور الأمر للشعور بالفشل، والبحث عن وسائل جديدة لإثبات نفسه غالباً ما تكون شاذة، ومهددة لمستقبله.
ويشير علم النفس إلى أنَّ للمدرسة دوراً في الإعداد البدني للطفل، كما أنَّها ترعى نموه العقلي والعاطفي والاجتماعي، وتساهم إيجابياً في تكوين شخصيته، وبالتالي فإن ابتعاده عن المدرسة يعتبر من أشدّ المخاطر التي تواجه مستقبله.
إن آثار هذه الظاهرة التي انتشرت في سوريا خلال الأزمة، تعدّ كارثية، وهي تدق ناقوس الخطر، وهذا الأمر يحتاج إلى وقفة حقيقية من الجميع للعمل الجاد من أجل مكافحتها وإعادة هؤلاء الأطفال إلى طفولتهم ومقاعد دراستهم وساحات اللعب، وبعث الأمل فيهم من جديد.
«أيادٍ صغيرة وعبء ثقيل»
حذَّرت منظَّمتا الأمم المتحدة للطفولة ـ «يونيسف» و «سيف ذي تشيلدرن» غير الحكومية، يوم أمس، من تفاقم عمالة الأطفال السوريين التي بلغت مستويات خطيرة نتيجة الحرب في سوريا، والأزمة الإنسانية الناجمة عنها.
وفي تقرير بعنوان «أيادٍ صغيرة وعبء ثقيل»، قالت المنظمتان إنَّ «النزاع والأزمة الإنسانية في سوريا يدفعان بأعداد متزايدة من الأطفال ليقعوا فريسة الاستغلال في سوق العمل».
وفيما أكَّد روجر هيرن، المدير الإقليمي لمنظمة «سيف ذي تشيلدرن» في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، أنَّ الأزمة السورية «دفعت الملايين إلى الفقر ما جعل معدلات عمالة الأطفال تصل إلى مستويات خطيرة، رأى أنَّه «في الوقت الذي تصبح فيه العائلات أكثر يأساً، فإنَّ الأطفال يعملون أساسا من أجل البقاء على قيد الحياة، ويصبح هؤلاء لاعبين اقتصاديين أساسيين في سوريا أو دول الجوار».
ووجد التقرير، الذي نشر في عمّان، أنَّ «أربعة من كل خمسة أطفال سوريين يعانون الفقر»، بينما يقبع «2.7 مليون طفل سوري خارج المدارس وهو رقم فاقمه عدد الأطفال المجبرين على الانخراط في سوق العمل».
ووفقاً للتقرير فإنَّ «الأطفال داخل سوريا يساهمون في دخل عائلاتهم في أكثر من ثلاثة أرباع العائلات التي شملها المسح. وفي الأردن يعتبر نصف أطفال اللاجئين السوريين المعيل الرئيسي في العائلة».
أما في لبنان، فوجد التقرير أطفالاً بعمر ست سنوات فقط يعملون في بعض المناطق، فيما يعمل ثلاثة أرباع الأطفال السوريين في العراق لتأمين قوت عائلاتهم.
لكن أكثر الأطفال عرضة للمخاطر، بحسب التقرير، «هم أولئك الذين ينخرطون في النزاع المسلح والاستغلال الجنسي والأعمال غير المشروعة مثل التسول المنظَّم والإتجار بالأطفال».
ويحقق هؤلاء الأطفال دخلاً يومياً يتراوح ما بين أربعة إلى سبعة دولارات مقابل العمل لما يزيد عن ثماني ساعات لستة أيام في الأسبوع.
صحيفة السفير اللبنانية