سوريا: مهن تعيش مجدداً

انحسر مستوى الأشجار في سوريا إلى مستوى قياسي. «الناس تحطّب، ولا سبيل لوقف هذه العملية بسبب شح الوقود وارتفاع سعره» يقول مسؤول بلدي في إحدى قرى الساحل.

بسام كان واحداً من الذين ينزلون كل مساء ليقوموا بقطع أغصان الأشجار بغية تأمين وقود تدفئة لأسرته الكبيرة. إلا أن سواعده الطويلة والمتينة، وقوة عزمه في رمي الفأس، حملت إلى البيت أكثر من حاجته بشكل يومي. استعار الجيران، أكثر من مرة، وصار بسام يقود دراجته، ذات الثلاث عجلات، في طرق الوديان الترابية، ويؤمن لأكثر من أسرة حطب الغابة. لكنه صار يتقاضى أجراً لذلك.

في قرى كالسودا وعورو ورأس الكتان وغيرها، في محافظة طرطوس، بدأ الأمر بالتحول لتجارة صغيرة. الوديان شاسعة، وحين تبدأ ذاكرتك تتشوش حيال من يملك هذا الحرش أو ذاك من السكان، تصبح لا مبالياً.

يساعد بسام أربعة شبان يؤمنون كمية من الحطب لعشر أسر وسطياً كل يوم. أحياناً تشعل عائلة بيت احد البيوت مثلا حطباً من بستان زيتونها، ولكن من دون أن تعلم. الكل يعتمد على فئة صغيرة صار الناس يعرفونها بالحطابين. مهنة جديدة منقرضة عادت للحياة. إلى جانب عادات منسية، كتخزين كميات كبيرة من الشموع، والتدفئة على «التمز» وهو من بقايا لب ثمار الزيتون، والزراعة في أصغر مساحة متوفرة خلف البيت، لتفادي الإنفاق على خضار السوق، والاستعانة بضوء الكاز أو المصابيح الغازية التي تطلق رائحة كحول طبي في انقطاعات الكهرباء الطويلة، وغيرها مما استدعته الحاجة.

لكن الحطابين الآن، بخلاف غيرهم، يهددون ثروة حقيقية في سوريا، لم تنجُ هي الأخرى من آثار الحرب المدمرة منذ أربع سنوات وحتى الآن. وتقدر وزارة البيئة السورية مساحة الغابات الطبيعية في سوريا بـ 232.8 ألف هكتار، فيما تقدر المساحة الحرجية الإجمالية بـ513 ألف هكتار. وتقدر القيمة الاقتصادية لكل شجرة ضمن المحميات في الأماكن الأكثر ضرراً بحوالي 200 ألف دولار.

الضرر الذي يقدر بمليارات الدولارات كان بشكل أساسي في مناطق الحدود التركية – السورية، ولا سيما قرب منطقة اسكندرون أو هاتاي،
حيث تدور حتى اللحظة معارك بين الجيش السوري وفصائل عسكرية مسلحة، تنتمي بشكل أساسي إلى «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» في بلاد الشام.

إحدى الحرائق التي اندلعت في تلك المنطقة لتأمين مجال رؤية عسكرية طالت 150 هكتاراً من أشجار الصنوبر والسنديان المعمر. حرائق أخرى سببتها الصواعق، وربما بفعل فاعل في تلك المناطق أتت على 60 دونماً من أشجار البطم.

وبرغم أن بُعد الغابات عن مناطق السكن يسمح بـ «سرقتها» بشكل أسهل، إلا أن التحطيب غير الشرعي وصل للحدائق العامة في المدن التي خرجت عن سيطرة الدولة أو وقعت تحت حصار أحد الطرفين. في حمص، كما في قرى ريفها وريف حماه وإدلب وفي مدينة الرقة ودير الزور ومناطق أخرى، قطعت أشجار الطرق والحدائق والتي تظلل مداخل الدوائر الحكومية. وصلت الحاجة إلى الوقود إلى حرق أبواب وأخشاب المنازل من قبل العسكريين والمدنيين على حد سواء.

وفيما تحاول الحكومة تعويض النقص الحاصل، يعترف مسؤولون أن الأمر شبيه بملء قربة مثقوبة. برغم ذلك اتفقت وزارتا البيئة والزراعة مع دول «صديقة»، مثل كوريا الشمالية، العام الماضي على حملات تشجير قالت إن تعدادها يقارب 23 مليون غرسة. أيضاً أعلنت وزارة الزراعة السورية، في وقت سابق، أن مبلغاً يقارب 1.7 مليار ليرة سورية (الدولار الأميركي يقترب من 400 ليرة) رصد لاستعادة خسائر الثروة الحرشية، والتي لم تتوفر إحصائية رسمية لها، وإن نوهت الوزارة في تقارير سابقة بدمار طال 50 مركزاً لحماية الغابات ومقتل 13 عاملاً، إضافة إلى «اختفاء» 150 آخرين.

جهود تعرقلها، الحرب، وضعف الشعور بالمواطنة، وندرة الوقود في مواجهة شتاء وُصف العام الماضي بالأشرس منذ 60 عاماً.

يعرف بسام، الذي يدر دخلاً جيداً الآن من تجارة الحطب، أن أسعاره لن تنخفض قريباً. وإذ بلغ سعر طن الحطب هذه الأيام 30 ألف ليرة (ما يقل بقليل عن مئة دولار) فإن انحسار الغابات وشكوى الأهالي بعد تفقد بساتينهم، دفعه إلى أحراش القرى المجاورة، حيث تصادف مع مجموعات أخرى تقوم بالتحطيب. يقول إن المشكلة تم حلها ببعض «العياط»، أي الصراخ باللهجة المحلية، لكنه لا ينكر أن «هذه المصلحة فيها منافسة شرسة الآن».

بدوره قال صاحب محل سمانة بدأ ببيع حطب بسام، أن حطّابه الأساسي يشكو منافسة من آخرين، لديهم مناشر كهربائية، وشاحنات أكبر، وقدرة على الحركة تسمح لهم بطرح سعر أفضل أحياناً، ثم يغمز «ربما ستشتعل الحرب بين عصابات التحطيب قريباً أيضاً».

أياً يكن يبدو محقاً تعليق وسائل الإعلام المحلية حول الكلفة العمرية التي ستسمح باستعادة 7500 شجرة حرجية تم قطعها من إحدى المحميات القريبة في ظرف عام ونصف العام. تقول المذيعة في تعليقها «ما احتاج إلى 20 عاماً من الرعاية والأمن، هل ينمو مجدداً إن لم يتحقق الأمن في سوريا؟».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى