سوريا… موقف السلفية التقليدية والحركية (ياسر باعامر)
ياسر باعامر
عند قراءة ملف الانحياز السلفي تحديداً نحو الملف السوري، يجب أن يفصل عن سياقه الديني الصرف، ونعطي له ملامح قراءة سياسية، فدمشق تُعدَّ الحليف الرئيسي لإيران في المنطقة، فقد كان من المهم كسر هذه الشوكة عبر إسقاط النظام الذي حكم سوريا لأربعة عقود متتالية، بعد محاولة التفاهم العربية الخليجية لإعادة دمشق إلى الحظيرة العربية، ويتذكر المراقبون زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز لدمشق في أواخر 2010، في عملية جراحية أخيرة لجدولة حسابات النظام السوري وإبعاده عن طهران، إلا أن نجاح تلك الزيارة لم يدم طويلاً.
لم تُعطَ الثورات العربية الأخرى ما تم منحه من النظام السياسي الرسمي الخليجي في الثورة السورية؛ كالسماح بجمع الأموال، ودعاء القنوت لهم في المساجد، والسماح للسوريين بالتظاهر في بعض البلدان الخليجية، والسماح للسوريين بتنظيم التظاهرات الاجتماعية والاحتفالية الخاصة، كعمل البازارات الخيرية لدعم المدنيين والمقاومة.
يظل النموذج السعودي السلفي في صورته الحركية النموذج الإسقاطي عند تناول الموقف من الثورات؛ باعتبارها المدرسة الأم المصدرة لفكرتها؛ نظراً للبعد الشرعي التأصيلي الذي تمتلكه، بالإضافة إلى أنها تعيش حالة فهم أكثر قدرة على التعاطي مع ثوابت الخطاب وأصالته والتكييف المرن للتحديات السياسية المهملة في هذا الخطاب، ومن السهل رصد تماهيه السريع مع كثير من المستجدات السياسية التي كانت تطرأ في العالم.
وعلى رغم من مرونة وحركية رواد هذا الخطاب، ومحاولتهم شرعنة مفاهيم، كالنقد السياسي، والتعبير عن الرأي، وما تتعاطى معه هذه المدرسة من تطور متسارع تجاه الأحداث، عبر خطابات متتالية قديمة وحديثة، كان أهمها مشاركتهم في ظل زخم الربيع العربي بخطاب دولة الحقوق والمؤسسات، إلا أنهم ظلوا مخلصين للخطاب السلفي التقليدي، من حيث الهجوم على البنية التأسيسية للنظام الديمقراطي، ونقض جذوره، وسحب ذلك على كثير من وسائله، كالانتخابات وتأسيس الأحزاب، ومع استقرار هذا الرفض لدى الرموز الحركية والأتباع، لم تتوقف فكرة التأصيل لمشروعية الموقف من الديمقراطية، عبر إنجاز مشاريع بحثية لتأكيد الرفض! ومنها كتاب (حقيقة الليبرالية) للدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي، وفي الكتاب نقد واضح ومباشر لكثير من وسائل الديمقراطية كالانتخابات، وتأكيد على حالة التوافق بين المدارس السلفية في نقض الديمقراطية.
هذا التمايز النسبي عن الخطاب السلفي التقليدي يمكن ملاحظته في الكثير من القضايا، التي شكلت فيه السلفية خطاباً حازماً في مواقف سياسية مهمة في التاريخ المعاصر، كأحداث الخليج، أو الموقف من المرأة، لكن التقاءها مع خطاب المدرسة الأم في الموقف من الديمقراطية جعلها فاقدة لإجابات حاسمة في المشروع السياسي الشرعي، الذي يمكن أن يشكل البديل في ظل تحول ديمقراطي شعبي كبير، وإشكاليات أسئلة يطرحها الوعي الجمعي للجيل السلفي المعاصر.
ومع ذلك فحقيقة إشكالية السلفية الحركية في السعودية تظل في طبيعة تكوينها، وغياب التجربة السياسية التي أفقدتها كثيراً من محاولات التصور للمسألة. ومن هنا فاستمرار الركون للخطاب الموروث غير ممكن، خاصة في ظل نجاح سلفية الربيع العربي، وخاصة المصرية في تقديم نفسها عبر روح الشريعة، ومنافسة خطابها بوسطية مفاجئة للساحة، أكسبها احترام كتل مختلفة، وهو ما جعل رموز هذه المدرسة في السعودية يبدأون في محاولات التعاطي مع واقع ديمقراطي جديد يكون خطابهم فيه مؤسس أصيل وشريك ضمن مشروع وطني والتنظير لهذه المرحلة يعني بطبيعة الحال إعادة قراءة ميراث فقهي سياسي امتد لسنين طويلة.
يُحسَب للسلفية السعودية بناؤها لهذا الخطاب، وضخه للعالم، إلا أن النتيجة الطبيعية لجمود الخطاب، ومساحة تضخمه في فقه الأفراد، دون وجود الحجم نفسه في مناقشة فقه قضايا الأمة العامة؛ فإن خطاب سلفية الربيع العربي يبدو مرشحاً لأن يلعب دور المنقذ لهذه المدرسة، وجرها إلى مساحة التحول المدني، واتجاهات الفقه السياسي، والتنظير لمشروعية الوسيلة الديمقراطية، ونزعها عن جذورها، التي وضعت طوال سنين كسياج؛ لئلا يقتحمها رواد هذا التيار. وقد بدأت فعلياً مراكمات التجربة القصيرة، عبر شخصيات مهمة في التيار السلفي، تحاول تكييف التحول الشعبي الديمقراطي تكييفاً شرعياً، في محاولة للتماهي معه، وعدم الخروج عن بيئة سياسية متسارعة التحول، تتقدم بدون توقف نحو التجربة الديمقراطية
أمام متغيرات سياسية متسارعة، وإزاء حالة وعي شعبي سياسي، وشرعي كبير، وظهور نخبة من الشرعيين، الذين يتعاطون مع المنتج الفكري الغربي بعين نقدية موضوعية، يبدو أنه لم يعد مقبولاً ادعاء القدرة على الحسم في مسائل الخلاف السياسي، والتأصيل لإقصاء المختلف؛ ذلك أن أقوى موروث فقهي سياسي مستقر لسنوات طويلة، لم يصمد بضعة أشهر إزاء مطالب أنجزها ربيع الشباب العربي؛ فالتغيرات التي أحدثتها الثورة العربية أنجزت تماهياً سلفياً واضحاً مع منتجاتها الديمقراطية، بل وحث تأصيلي للجماهير للعمل ضمن منظومتها في دول الربيع العربي.
ومن هنا؛ فإن هذا الخطاب السعودي يلزمه أن يدرك أن الثورة العربية السلمية كانت إيذاناً بالانتقال إلى نموذج الحياة المدنية الديمقراطية، ورفضاً لفكرة المواجهة مع الفكرة الديمقراطية، التي استقرت الأدبيات السلفية التقليدية الرسمية وحتى الحركية على رفضها، كما أن عليه كذلك أن يدرك أن تشكيل وعي جمعي متفق على رفض النموذج الديمقراطي الغربي، كان قادراً على الصمود في مراحله سابقة، رغم محاولات الاختراق التي مارستها أدبيات فكرية إسلامية مختلفة، كالإخوان، وبروز تيار تنويري يخرج من عباءة السلفي، وينقلب على مفرداته التأسيسية، ويلتزم في المقابل بخطاب مدني إصلاحي، يدفع باستدعاء النموذج الديمقراطي الغربي للحالة الإسلامية.
المتغيرات التي تشكل ملامح المشهد العربي الحالي، كفيلة بإحداث تحول تأصيلي، وتكييفات شرعية قابلة للحياة، في أجواء كهذه على المدى المتوسط والطويل، وغير ممكن أبداً أن يستمر عزف الخطاب على نمط مختلف، يتجاهل فيه الأتباع الذين باتوا اليوم قادة مجتمع.. إن ما يحدث اليوم هو أزمة تحول من المتوقع أن تحدث ارتباكاً، كما بدت ملامحها في الخلافات عبر وسائل الإعلام، ولكنها مرحلة مهمة لاستئصال الجرعات المتضخمة من رفض الاستفادة من الوسائل الديمقراطية لصالح التعاطي الإيجابي، الذي يحفظ للثوابت والأصول قيمتها، وللوسيلة حظها من التطبيق، كأحد أهم التطبيقات البشرية، التي تساعد على تحقيق المبادئ والقيم العليا للإسلام، ضمن أركان الدولة العصرية الحديثة.
الرؤية السابقة تتحدث أيضاً عن مواقف متقدمة في الوسط السلفي الحركي السعودي، كالشيخ سفر الحوالي الذي كان موقفه السابق من الديمقراطية وصفُها بأنها "كفر وشرك"، إلا أنه أبدى لغة متطورة تجاه الديمقراطية، وذلك في خطابه الذي ألقاه بالنيابة عنه النائب السلفي الكويتي وليد الطبطبائي في مؤتمر بتونس (15 ديسمبر 2011)، قال فيه: "بينما معظم شعوب العالم تحولت إلى الحرية والديمقراطية، وحدها الدول العربية باتت بعيدة عن رياح الديمقراطية والحرية، وتحولت الجمهوريات إلى بلدان وراثية ترث البلاد والعباد". كما دعا بقية الدول العربية التي لم يزرها الربيع العربي إلى أخذ العبرة مما جرى، وأن تتصالح مع شعوبها، وأن تقوم بإصلاحات شاملة، وأن تفتح المجال لقيام أحزاب سياسية، ونقابات مهنية، وأن تقيم انتخابات حرة نزيهة.