لا يُمكنُ لعاقلٍ أن يُدافِعَ عن بشّار الأسد ونِظامِ حُكمِهِ بعدَ هُروبِهِ وتَخلِّيهِ بهذا الشَّكْلِ عن الدَّولةِ والشَّعبِ، مُفضِّلاً سَرِقةَ أموالِهِما والهَرَبَ خارجَ البلادِ بعدَ سَنَواتٍ من الحربِ العَبَثيّةِ التي اسْتَنْزَفَتْ خيراتِ البلادِ وأهلِها، مُتَّكِئاً في ذلكَ على تَحالُفاتٍ وَهْميّةٍ آثَرَتِ التَّخلِّي عنهُ وعنِ المشروعِ الذي أوْهَمَ الشَّعبَ بالدِّفاعِ عنهُ سنواتٍ طويلةً.
ومعَ مُحاوَلَةِ بَعْضِهِمُ النَّيْلَ من المرحلةِ الجديدةِ التي لم تُظهِرْ حتّى اللحظةِ مواقفَها الواضحةَ مِنْ سُورية المُستقبَل، وإنْ كانتْ بياناتُها وتصريحاتُها مُطَمْئِنةً لشَرِيحةٍ لا بأسَ بها من الشَّعبِ السُّوريِّ، لا نزالُ في أمسِّ الحاجةِ إلى رُؤيةٍ وطنيّةٍ ومَشْرُوعٍ قائمٍ على أُسُسِ الدَّولةِ المَدَنيّةِ الوطنيّة، وهو مشروعٌ لا يُمكِنُ أن يَسْتَثْنِيَ أيّاً من مُكوِّناتِ الشَّعبِ السُّوريِّ العِرْقيّةِ والدِّينيّة، ذلكَ أنَّ سُورية لا يُمكنُ أن تنهضَ إلّا بأبنائِها دُونَ تمييزٍ بينَ مُكوِّنٍ وآخرَ، وهُوَ ما يجبُ أنْ يُشْتَغَلَ عليهِ سِياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً بطريقةٍ مُختلفةٍ بعدَ انتصارِ الحَراكِ الشَّعبيِّ الواسعِ الذي بدأَ عامَ ٢٠١١، انطلاقاً مِنَ الرَّغْبةِ في استعادةِ كرامةِ الشَّعبِ وتحريرِهِ من الاستبدادِ والاستئثارِ بالحُكْمِ من مجموعةٍ لم تكُنْ مَعْنيّةً بالوطنِ بقَدْرِ عنايتِها واهتمامِها بجَمْعِ الثَّرَواتِ والسَّيطرَةِ على مُقدَّراتِ البلادِ بطريقةٍ قائمةٍ على العقليّةِ “المافيويّة” الإقصائيّة، وهذا ما أوصلَ البِلادَ إلى ما وصلَتْ إليه.
ومعَ هذا فإنَّ الوَعْيَ والحِكمةَ لدى أبناءِ المُجتمَعِ السُّوريِّ حالا دونَ الانزلاقِ إلى أتُونِ حربٍ أهْليّةٍ وحمّامِ دمٍ كانَ بعضُهمْ ينتظرُهُما بفارغِ الحِقْدِ، رَغْبةً منهم في الإجْهازِ على ما بقيَ لدى هذا الشَّعبِ القابضِ على جمرِ الصَّبْرِ والرَّاغبِ في التَّخلُّصِ من العقليّةِ البائسةِ التي حكمَتِ البِلادَ فترةً طويلةً، وهو الوعيُ الذي لُوحِظَ لدى هيئةِ التحرير بتصريحاتِها التي تُؤكِّدُ الحِرْصَ على توحيدِ الفصائلِ وانضوائِها تحتَ رايةِ الوطنِ والرَّغبة في العملِ على إعادةِ بناءِ سُورية والتَّعهُّدِ بعدمِ التَّمْييزِ بينَ مُكوِّناتِ الشَّعبِ السُّوريِّ على اختلافِ أديانِهِ وأعراقِهِ وطوائفِه، وهو التَّعهُّدُ الذي بَدّدَ مَخاوِفَ قِسْمٍ كبيرٍ من أبناءِ الشَّعْبِ السُّوريِّ الذي أعربَ عن قَلَقِهِ مِنْ مُستقبَلِ بِلادِه، ولا سيَّما أنّ الهيئةَ مُصنَّفةٌ على لوائحِ الإرهابِ العالميِّ، وهُوَ ما حاوَلَتِ الاشتغالَ على التَّخلُّصِ منهُ بالظُّهورِ الإعلاميِّ لقائدِها أحمد الشَّرْع على إحدى وسائلِ الإعلام الأميركيّةِ قبلَ الثَّامنِ مِنْ كانون الأوّل ٢٠٢٤، وتقديمِهِ خِطاباً يختلفُ تماماً عن الأدبيّاتِ التي عُرِفتْ بها الهيئةُ سابقاً.
إنَّ ما حدثَ بعدَ الثامنِ من كانون الأول ٢٠٢٤ أثبَتَ بما لا يدعُ مَجالاً للشّكِّ الوَعْيَ الكبيرَ الذي يتمتّعُ بهِ الشَّعبُ السُّوريُّ، كما أثبتَ الحِقدَ الكبيرَ الذي يَحمِلُهُ الكِيانُ الصُّهيونيُّ على سورية بكُلِّ ما تَحْمِلُهُ من إرْثٍ تاريخيٍّ وحضاريٍّ ونضاليّ، ولهذا استباحَ الجغرافيةَ السوريةَ كاملةً ليُعيدَها عَسْكريّاً إلى ما كانتْ عليهِ عام ١٩٤٦، لكنَّ الكيانَ الصهيونيَّ نَسِيَ، أو تَناسى، أنّ الوَعْيَ الذي تمتّعَ بهِ الشَّعبُ السُّوريُّ في تلكَ الفترة لا يزالُ حاضراً بقُوّةٍ في هذه الأيّام، ومن شأنِ هذا الوعي أن يَتجذّرَ ويتعمّقَ بالحرصِ الجَمْعِيِّ على منظومةٍ من الركائزِ والأُسُسِ التي يجبُ أن تَحْكُمَ سُوريةَ المُستقبَل، وعلى رأسِها أنّهُ ليسَ في مَقْدُورِ مُكوّنٍ واحدٍ أنْ يَحكُمَ سُوريةَ، ويسيرَ بها إلى شاطئِ الأمْنِ والسَّلام، ومِنْ ثَمَّ لا بُدَّ من عملِ الجميعِ على إقامةِ نظامٍ سياسيٍّ يَكفُلُ الحُقوقَ والحُرّيّاتِ للمُواطنينَ السُّوريينَ بمُكوِّناتِهِمْ وانتماءاتِهِمْ كافّةً، معَ الحِرْصِ الكبيرِ على تحقيقِ العدالةِ الاجتماعيّةِ وإقامةِ نظامٍ اقتصاديٍّ يَكْفُلُ العَيْشَ الكريمَ للمُواطِنِ السُّوريِّ الذي عانى ما عاناهُ من الفَقْرِ والفاقَةِ سنواتٍ طويلةً من حُكْمٍ قامَ على عقليّةِ تَسلُّطيّةٍ “مافيويّة” استغلّتْ شرائحَ من الطوائفِ والأديانِ والمذاهبِ والأعراقِ كُلِّها بهدَفِ الإساءَةِ إلى الجميع، بعدَ خَنْقِ الأنظمةِ والقوانينِ التي مِنْ شأنِها أن تَكْفُلَ حُقوقَ المواطنِ، وتُدافِعَ عن حقِّهِ في العيشِ الكريمِ، بعيداً عن الإقصاءِ والاستبدادِ والتَّنْكِيل.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة