سياسات إدارة بوش حافلة بالأخطاء
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: دار سان مارتن، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 336 صفحة
صدر هذا الكتاب أخيرا- كما يعترف المؤلف أساساً – ليؤكد أن الفترة الراهنة تشوبها حالة اضطراب وفوران تكاد تعصف بأرجاء العالم كله، وهو ما تشهد به بداهة أحداث العنف الدموي وجرائم الإرهاب المرتكبة في تواتر شبه يومي وعلى كل من الصعيد القطري والإقليمي والدولي على السواء.
على أن الميزة المحورية لهذا الكتاب إنما تتمثل في أنه ليس من نوعية الكتابات أو الدراسات ذات المنحى التنظيري أو الفكري، بقدر ما أنه يصدر عن تجربة مهمة من حيث ثراء الممارسة العملية وتنوع المسارات والمهام التي اضطلع بها المؤلف، الذي تُجسد شخصيته في حد ذاتها هذا الجانب من التنوع الذي جمع فيه من نشأة أفغانية مسلمة، وتعليم أميركي.. وإقامة في كاليفورنيا وبيروت وشيكاغو ثم واشنطن، فضلاً عن المهام المحورية التي تولاها من موقع الدبلوماسي المحترف والمبعوث الرئاسي والمستشار الخاص في البيت الأبيض، وكلها مهام ظلت مرتبطة بتحولات الأوضاع السياسية في أقطار مثل أفغانستان. على أن التنوع المذكور أعلاه يتجسد كذلك في حقيقة أن هذا الكتاب يجمع في أسلوبه السردي .. وفي مادته العلمية وفي الشهادات التي يدلي بها المؤلف عبر الفصول والصفحات- بين إيقاع السيرة الذاتية وساحة الإدلاء بإفادة شاهد كان لصيقاً بالأحداث بل كان مشاركاً في صياغتها وفي تسيير دفتها في بعض الأحيان.
جاء تقرير »تشيلكوت« المنشور في الفترة القريبة الماضية ليعيد إلى الذاكرة التاريخية عصر »الاعترافات«. وتابع مراقبو الشؤون الدولية »اعترافات« كل من البريطاني توني بلير ثم ما يشبه الاعترافات الصادرة عن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بشأن القرار المدّمر المتّخذ في السنة الثالثة من هذا القرن الجديد وكان يقضي كما أصبح معروفاً- بغزو أرض العراق.
والمعروف أن فضيلة الاعترافات لها تاريخها المؤصَّل في الأدبيات المسيحية، وأشهرها اعترافات القديس أوغسطين الذي عاش 75 سنة (بين عامي 354 و 430 للميلاد) واتخذ مقره في ساحات عنّابة في أرض الجزائر (العربية المسلمة فيما بعد). وقد استغرق تدوين الاعترافات فترة قوامها ثلاث سنوات (بين عامي 497 و400 ميلادية). لكن بينما عكف سانت أوغسطين، كما يعرفونه في عالم المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية، على انتهاج سبيل الصدق مع الذات والاعتراف بأن الإنسان كائن خطَّاء، إلا أن الاعترافات التي أدلت بها أخيرا شخصيات من شاكلة توني بلير جاءت أقرب إلى التبريرات والتسويغات .
والحاصل أنه في غمار هذه الأجواء من التبريرات أو هي الاعترافات، المصطنعة كما قد نصفها، يصدر كتاب من تأليف واحد من تلك الدائرة السياسية الدبلوماسية الضيقة التي كانت أيامها تحدق بالرئيس جورج بوش. يحمل الكتاب عنواناً رئيسياً هو:، المبعوث، ويليه مباشرة في العنوان الرئيس نفسه عبارة شارحة لمقاصد ومحتويات الكتاب وهي: رحلتي وسط عالم مضطرب: من كابول إلى البيت الأبيض.
هذا الاسم المسلم
وبمناسبة كابول، فالمؤلف يحمل بدوره اسماً يجمع في إيقاعه بين الجذور الإسلامية والتراث الأفغاني في آن معاً. المؤلف هو الدبلوماسي الأميركي الأفغاني الأصل زلماي خليل زاد.
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى عوامل شتى، أولها توقيت صدوره على مشارف الشوط الختامي من سباق الرئاسة الأميركية بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون وكل منهما لا يتورع عن استثمار أو استغلال ملابسات غزو العراق، ومن قبلها غزو أفغانستان..
حيث يؤكد عليها المرشح الجمهوري فيما تندد بها المرشحة الديمقراطية. والعامل الثاني هو ما لاحظه المحللون السياسيون من نبرة أقرب إلى المكاشفة، حتى لا نقول المصارحة في متون هذا الكتاب، وتلك خاصية وربما مزية تأتي على خلاف المذكرات والكتابات الصادرة عن فريق أو عصبة المحافظين الجدد الذين كانوا يحركون الأحداث خلال حقبة بوش، التي استغرقت الفترة 2000- 2008 ..كما هو معروف. والمزية الثالثة أن الكتاب لا يصدر عن مراقب سياسي ولا محلل أو باحث فكري بل عن عنصر كان مشاركاً بشكل مباشر ومسؤول أيضاً في رسم الخطط السياسية ثم في تنفيذ ما كان مكلَّفاً بتنفيذه، سواء داخل وزارة خارجية الولايات المتحدة في واشنطن أو على المسرح السياسي داخل أفغانستان أو في أروقة واجتماعات منظمة الأمم المتحدة في نيويورك.
يعمد الدبلوماسي الأميركي- الأفغاني الأصل- المسلم الديانة إلى استعراض الجهود التي بذلها من جانبه من أجل إقرار دستور يراه حديثاً ومنصفاً لكل من أفغانستان والعراق، وقد عمل في كل منهما سفيراً ممثلاً لإدارة جورج دبليو بوش.
ولكن ناقدي هذه الجوانب من كتابنا يسجلون اعتراضهم بالذات إزاء ما حدث من إصرار السفير خليل زاد على أن يكون رئيس أفغانستان من جماعة البشتون بدعوى أنهم يشكلون الأغلبية من شعب البلد المسلم المذكور.
خلف الكواليس
في الكتاب أيضاً، وكما يوضح الناقد الأميركي مايكل غوردون (نيويورك تايمز، عدد 6 مارس 2016) إشارات سياسية، من خلف الكواليس، كما قد نسميها لمحادثات يقول مؤلفنا أنها ظلت تدور بين أميركا وإيران بشأن مستقبل العراق. وقد دارت تلك المحادثات قبل غزو الأميركيين لأرض الرافدين، وكان هدفها كما يقول الكتاب حماية الطائرات الأميركية التي قد تتجاوز في تحليقها إلى أجواء خارج المجال الجوي العراقي.
وفي سياق آخر ينال كتابنا تقديراً ملحوظاً من جانب المحللين السياسيين، وخاصة المهتمين منهم بقضايا منطقة الشرق الأوسط، ابتداء من بُعدها العربي ثم اتساعاً ووصولاً إلى تخومها الطرفية إلى حيث باكستان وأفغانستان.
هنا يروق لقارئ الكتاب ذلك المزج الأدبي أو التداخل الفني الذي يجمع فيه المؤلف بين نشأته الأولى في مدينة مزار شريف الأصيلة في ربوع أفغانستان وبين فترة يفاعته ودراسته الجامعية في عاصمة لبنان ثم حصوله على درجته الجامعية الرفيعة في شيكاغو..فضلاً عن تطعيم كل هذه الوقائع والملابسات بمشاهد وشواهد مستقاة من واقع خبرته السياسية والدبلوماسية التي استغرقت نحو 30 سنة، وخاصة خلال فترة خدمة الدبلوماسي المؤلف، سواء في أصقاع منطقة بيشاور الحدودية لباكستان في عقد الثمانينات، أو في عاصمة أفغانستان حين كان المؤلف سفيراً للولايات المتحدة في كابول على امتداد الفترة 2003- 2005..
وبعدها عاش المؤلف وكتب عن فترة بعثته الدبلوماسية في بغداد وكان ذلك بين عامي 2005 و2007 إذ كان سفيراً لأميركا لدى العراق.
الروس والعنف
وعلى مدار المواضع التي تعرض لأفغانستان في هذا الكتاب يحاول المؤلف تفسير التناقض التاريخي أو الاستراتيجي الذي تخلّف عن تعاطي الولايات المتحدة مع الشأن الأفغاني: لقد بدأت هذه الاهتمامات أو الاشتباكات مع وقائع الغزو السوفيتي للبلد الآسيوي المسلم في عام 1979، وهنا تتابع فصول كتابنا كيف جاء هذا الغزو الروسي.. فضلاً عن التدخل الأميركي (من خلال عمليات وكالة الاستخبارات المركزية سي.آي. إيه) ليشكل نقلة في الحرب الباردة التي كانت مشتعلة بين معسكريْ الشرق والغرب.
وما كان من الطرف الأميركي في تلك الحرب الباردة، إلا أن نشط في تجنيد ودعم فصائل المقاومة الأفغانية التي حملت من يومها شعارات المجاهدين ضد الغزو والوجود السوفيتي.
لكن بقيت المشكلة، على نحو ما يوضح أو يفسر كتابنا، متمثلة في أن أفغانستان بعد انسحاب السوفييت تعاملت مع أحدث أسلحة الربع الأخير من القرن العشرين، واكتسبت خبرة في القتال وثقةً في النفس واهتماماً من جانب عناصر شتى من العالم الإسلامي، وكانت تلك هي الظروف المواتية والبيئية الحاضنة لتنظيم بالغ الخطورة حمل اسم القاعدة.
صحيح- يضيف مؤلفنا- أن الرئيس بوش ومستشارته الشهيرة كوندوليزا رايس كانا يتصفان في رأي المؤلف طبعاً- بقدر لا ينكر من الدقة والحصافة. لكن الدكتور زلماي لا يلبث أن يضيف في الموضع نفسه من الكتاب موضحاً شعوره الشخصي بالاستياء والإحباط إزاء وجود وآراء وسلوكيات شخصيات كانت أكثر من فاعلة ومؤثرة على صنع القرارات ورسم السياسات في إدارة بوش… وكان على رأسها تحديداً دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وهي أوضاع أفضت، كما يضيف الكتاب، إلى صراعات على النفوذ والتأثير بين القوى المؤثرة المختلفة وبالتحديد في كل من الدوائر العسكرية- البنتاغون وفي مواجهتها الدوائر الدبلوماسية وزارة الخارجية.
والشاهد في هذا السياق هو ما يتمثل في اعتراف مؤلف الكتاب بأنه صاحب المشورة التي قدمها إلى مسؤولي القرار الاستراتيجي في البيت الرئاسي الأبيض بالتدخل في أفغانستان التي كانت قد دمرتها الحرب السوفيتية الأفغانية، وكان عليه في تصورنا أن يزّين هذه النصيحة بتوضيح أن الهدف الأساسي إنما يتمثل في إعادة بناء مؤسسات أفغانستان بما يحول بين البلد المذكور وبين التواصل مع المتطرفين.
وبديهي أن الذي حدث هو تدخل أميركا في أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بقدر ما أنه بديهي أيضاً أن هذا التدخل العسكري في البلد الآسيوي المسلم لم ينتج عنه في رأينا أي بناء يُعتد به للمؤسسات، بل الذي حدث هو أن التدخل الأميركي العسكري أفضى إلى أوضاع بدأت من يومها، ومازالت قائمة بصورة أو بأخرى، ومؤداها أن أفغانستان أصبحت منطلقاً لأخطر عناصر التطرف.
على أن المؤلف يختم فصول كتابه بما يتصوره الدرس الأساسي المستفاد من كل هذه التجارب مؤكداً بأن أميركا، مازالت بحاجة إلى اتباع سياسة خارجية تتسم بالذكاء والاستنارة والفعالية وتنطلق من نظرة بعيدة المدى فيما تستند إلى دعم فعال وموضوعي من جانب الحزبيْن اللذين يديران الشأن العام في واشنطن، سواء كان ذلك من موقع الحكم أو موقع المعارضة.
عندما يتحول الحلم إلى كابوس
يذهب المؤلف إلى أن اقتراحه بتدخل أميركا في أفغانستان إنما كان يصدر عن منظور إيجابي، يرى في هذا التدخل نوعاً من التفاعل بين عالميْن وثقافتين واسلوبين للحياة.. وهو منظور يعترف بأنه ظل يتبناه على مدار حياته ربما منذ فجر شبابه والبدايات الأولى لحياته الدراسية التي كانت باكورتها سنة واحدة أمضاها الشاب الأفغاني المسلم خليل زاد بوصفه طالباً يدرس بموجب منحة تبادل دراسية في كاليفورنيا، وهو ما زرع في كيانه الاعتقاد بأن التحولات الإيجابية التي كان يتطلع إليها على أرض أفغانستان يمكن أن تتحقق إذا ما تم تطعيمها بالمُثل العليا المستمدة من الثقافة الأميركية.
ثم يعترف المؤلف بأن أحداث11 سبتمبر وتفجير المركز التجاري الدولي في نيويورك وما أعقب ذلك من غزو أفغانستان، أتاحت له كما يتصور- محاولة صياغة علاقة بين العالميْن المتباعدين: عالم واشنطن وعالم كابول، وهو ما حاول أن يفعله سفيراً في عاصمة الأفغان.
وعندما أصبح سفيراً ورئيساً للوفد الأميركي الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك يذكر في الكتاب أنه لم يتورع عن استخدام موقعه الدبلوماسي من أجل تحقيق المصالح القومية لأميركا ودفع مسيرة هذه المصالح إلى الأمام من خلال الترويج لما يسميه بالقيم والمُثل الأميركية.
وفي كل الأحوال، فقد خدم مؤلف الكتاب في إدارات أكثر من رئيس أميركي، وتدرج في مراقي ومستويات العمل الدبلوماسي إلى أن تولى، كما أسلفنا- منصب مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وهو موقع يجيز لشاغله حضور جلسات مجلس الوزراء في البيت الأبيض.
والمعنى في هذا الصدد أنه كان مشاركاً في تصنيع القرارات السياسية- الاستراتيجية التي شهدتها الفترة الفاتحة للقرن الواحد والعشرين. ولقد كانت بكل المقاييس حقبة دقيقة بل وبالغة الخطورة على الأقل بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في كل وقائع وملابسات غزو أفغانستان ثم غزو العراق.
ثم اتسعت اختصاصات المؤلف على نحو ما يوضح أيضاً في الكتاب عندما تم تعيينه مساعداً خاصاً للرئيس بوش ومسؤولاً عن السياسة الأميركية في جنوب غربي آسيا والشرق الأدنى (المشرق العربي) والشمال الأفريقي (المنطقة المغاربية العربية).
سيطرة المحافظين الجدد
يحرص المؤلف على تحليل الأخطاء التي ارتكبتها إدارات أميركية متعاقبة ولاسيما إدارة بوش الابن التي وقعت تحت سيطرة فئة المحافظين الجدد وكانوا من غلاة المثقفين الأميركيين المتعصبين وخاصة فيما يتعلق بتعاملات أميركا مع أقطار العالم الخارجي، و يعترف بأن فريق بوش كان يواجه سلبية يصفها على النحو التالي: مسار التعلم المنحدر إلى أسفل.
ثم يسارع إلى تفسير هذا الجانب السلبي قائلاً: لم يكن هناك من أفراد الفريق المسؤول عن سياسة بوش الخارجية مَن كان يتمتع بحّس عميق بحقائق التاريخ ولا بأوضاع الثقافات في العالم الإسلامي.
المؤلف
بعد مفارقته سلك المناصب الرسمية الذي عمل به على امتداد سنوات طويلة، يعمل المؤلف في الوقت الحالي مستشاراً لدى مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن..
بالإضافة إلى مجمع راند الفكري الشهير الاختصاصي في الدراسات الاستراتيجية والعسكرية. كما أنه يترأس مؤسسة خليل زاد للاستشارات الدولية، المتصلة بمجالات التجارة وإدارة الأعمال على المستوى الدولي، وخاصة في مجالات التشييد والطاقة والتعليم والهياكل الأساسية.
صحيفة البيان الأماراتية