سياسة “الانتقام” في لبنان: فشل نموذج ونجاح آخر

لم يسامح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اللبنانيين على ما قاموا به وما اعتبره “تحدياً لإرادته“.
يعيش اللبنانيون منذ العام 2017 ظروفاً صعبة، وخصوصاً منذ اعتقال الرئيس سعد الحريري في السعودية ومحاولة إجباره على الاستقالة، والتطورات التي رافقتها، وقيام اللبنانيين، وخصوصاً رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه، بتأخير قبول الاستقالة، إلى حين قيام وزير الخارجية جبران باسيل بتشكيل ضغط دولي على السعودية لإطلاق سراحه.
واقعياً، لم يسامح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اللبنانيين على ما قاموا به وما اعتبره “تحدياً لإرادته”، وهو الذي أراد من إجبار الحريري على الاستقالة تعويض – ما اعتبره السعوديون – إخلال في توازن النفوذ في لبنان، واعتقادهم بأنَّ الحريري ضعيف، وأنه قام بزيادة نفوذ “حزب الله” وإيران في لبنان.
منذ ذلك الحين، يعيش لبنان على وقع سياسة انتقام سعودية، زادتها الضغوط الأميركية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على كل من لبنان والعراق وسوريا وإيران، والتي تبلورت في خطّة بومبيو للفوضى في لبنان، وذلك حين دعا اللبنانيين صراحة (آذار/مارس 2019) إلى مواجهة “حزب الله” أو تحمّل المجاعة.
بشكل عام، إنّ النظرية العقلانية في العلاقات الدولية لا تقيم وزناً للعوامل السيكولوجية والنفسية والشعور بالعار والهزيمة والخسارة في دفع صانع القرار إلى تأجيج العنف أو السعي للانتقام، فهي تعتبر أن صانع القرار عقلاني، وأنه يدرس بدقة تكاليف الربح والخسارة في أي قرار، ويتخذ قراره بناءً على دراسة المعطيات بموضوعية واختيار الأنسب من البدائل المطروحة أمامه، وهو البديل ذو الربح النسبي (الأقل كلفة والأكثر ربحاً).
على الرغم من ذلك، نجد أنَّ العديد من القرارات الدولية تصاغ بحسب العوامل النفسية والشخصية لصانع القرار، وأن الانتقام يستخدم كاستراتيجية، ونجده في نموذجين:
1– النموذج الأول: الانتقام بدافع الانتقام
تؤدي العوامل الثقافية دوراً رئيسياً في تفسير السلوك الانتقامي، سواء في السياسة المحلية أو في العلاقات الدولية. من الناحية السيكولوجية، يرتبط الانتقام والثأر إلى حد بعيد بالشرف والهوية، إضافة إلى بعض العوامل النفسية التي تؤدي إلى استخدامه، منها الاعتداد بالنفس والشعور بالهزيمة والذل، والتي يمكن اعتبارها من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى الانتقام. وتحفل ثقافات الشرق الأوسط بشكل عام بمخزون ثقافي يقدس الشرف والكرامة ويرفض الذل والهوان.
هكذا، وقياساً إلى النظرية العقلانية، إذا أردنا تقييم السياسة السعودية في لبنان، والتي تتجلّى بمزيج من “الحرد” والانتقام، نجد أنّ الخسائر الفعلية أكبر من الأرباح المحقّقة من هذه السياسة، إذ إنَّ الانكفاء السعودي المرحلي الأول ساهم بتقوية النفوذ التركي الذي وجد متنفساً له في العديد من مناطق الشمال وصيدا، وفي الشارع السنّي الذي عانى، كما معظم اللبنانيين، من نتائج سياسة الضغوط القصوى التي أصابت الفقراء منه، ما جعل المساعدات الخارجية أمراً مهماً في زيادة القوة الناعمة التركية.
2– النموذج الثاني: الانتقام بدافع الردع
إضافةً إلى حسابات الربح والخسائر، تركّز النظرية الواقعية على أنَّ “الأفعال والحروب وسواها لا تُطلب لذاتها، بل كوسائل فعّالة لهدف سياسي ونهاية أبعد… لذا، إن الخيار العقلاني يهتم بإيجاد الوسيلة الأفضل لبلوغ الهدف بشكل أفضل”.
بهذا المعنى، نجد أنَّ الانتقام قد يكون وسيلة مقبولة إذا ما استُخدم في إطار سياسة ردع العدو، فالخوف من الانتقام قد يدفع العدو إلى التراجع عن تهديداته ورغبته في شنّ الحرب، وهو المسار الذي اتخذته المقاومة في لبنان في التعامل مع “إسرائيل”.
هذه الوسيلة تهدف إلى حمل العدو على التراجع خوفاً من عواقب المواجهة مع الخصم، وهي قد تؤدي إلى ضمان الاستقرار في ظلِّ حالة الفوضوية التي تطبع النظام الدولي، فخوف الأطراف من رد فعل الطرف الآخر يخلق نوعاً من “توازن الرعب”.
ولطالما استخدمت الدول وسيلة التهديد بالانتقام. وقد هدّد كلّ من الرئيس الصيني والروسي مؤخراً بالانتقام وبردّ فعل ساحق في حال قام الأميركيون بتهديد الأمن القومي للبلاد. وعليه، إنَّ التهديد بالانتقام من دون تنفيذه يجعل مصداقية الدول على المحك، ويهدّد أمنها واستقرارها.
وفي هذا الإطار، يبرز إطار التناسب بين الفعل وردّ الفعل، وهو ما يميّز النموذج الانتقامي الثاني عن النموذج الأول؛ ففي وقت تقوم المقاومة باحتساب دقيق للفعل وردّ الفعل والأشخاص المستهدفين بالانتقام، نجد أنَّ النوع الأول المطبق على لبنان قد تحوّل إلى عقاب جماعي لشعب بأكمله، على الرغم من أنَّ هناك فئات لا بأس منه تدين بالولاء أو التأييد لمنفّذ الانتقام.
من هنا، وفي دراسة للسلوكيات السياسية للقوى الفاعلة في الساحة اللبنانية، نجد أنه – على المدى الطويل – لا يمكن لأيِّ دولة أن تستخدم الانتقام والقوة الصلبة والتهديد من دون أن تقدم شيئاً من القوة الناعمة لتسويق نفسها “قوة للخير” ونموذجاً يقتدى به.
وعليه، إنَّ انكفاء السعودية عن التعامل مع الشعب اللبناني مباشرة، والاكتفاء بدعم بعض القوى السياسية الحزبية وتمويلها لإيصال نواب لها إلى البرلمان، لا يمكن أن يُصرف سياسياً على المدى الطويل، وخصوصاً إذا كان هذا يشي بأن السعودية تخلَّت عن مناطق نفوذها الطبيعي لمصلحة نفوذ مكتسب قد لا يدوم.
الميادين نت