تاريخ

سياسيون وصحافيون عرب في جعبة الوكالة اليهودية [1]

بدر الحاج

غالبية أجهزة الإعلام الرسمي والخاص في الأقطار العربية تصدح بصوت واحد يتلخّص بذمّ وتحقير المقاومين للمشروع الصهيوني، والإشادة بالمساعي العربية لـ«السلام» بإشراف الأميركي. وفي لبنان ليس مستغرباً على الإطلاق ما تقوم به معظم أجهزة الإعلام الممولة من قادة الاستسلام العرب. سوابق أصحاب الصحف في لبنان والشام للتسويق للمشروع الصهيوني تفضحها مجموعة من التقارير نشرها مدير القسم العربي للوكالة اليهودية إلياهو ساسون في كتابه الذي صدر بالعبرية في تل أبيب عام 1974 بعنوان «في الطريق إلى السلام – رسائل ومحادثات».

 

كانت الاتصالات بين المسؤولين الصهاينة والقيادات والوجهاء العرب تتم بشكل طبيعي في عشرينيات القرن الماضي. وقد كشفت كتب المذكرات عن اتصالات قادة صهاينة أجروا فيها لقاءات مع زعامات عربية خلال العهد الفيصلي في دمشق، في محاولة لتسويق لتفاهم عربي – صهيوني، كما يدّعون. أمّا ما ورد في مذكرات القادة العرب، هذا في حال وجود مذكرات لهم، فلا ذكر لمثل تلك اللقاءات إلا نادراً. وفي مذكرات السياسيين اللبنانيين وقادة الطوائف المختلفة تنعدم أي إشارة إلى وجود لقاءات مع القادة الصهاينة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.

كان القادة الصهاينة قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، يتجوّلون بحرّية تامّة في البلاد العربية، يتصلون بقيادات سياسية، وطائفية، وأمنية، وصحافية، وينسقون معهم مقابل ثمن. وهذا مسجّل في التقارير الأمنية الصادرة عن أجهزة المخابرات الفرنسية في منطقة الاحتلال الفرنسي. كما نُشرت مقاطع من الأحاديث التي جرت بين قادة الوكالة اليهودية والقيادات والصحافيين ورجال الدين من العالم العربي في أبحاث أكاديمية مختلفة.

تولى قادة الصهاينة تأمين مصالحهم في عدة حقول، منهم من تخصص في عمليات شراء مساحات ضخمة من الأراضي من رأسماليين لبنانيين وسوريين، وآخرون تجوّلوا في بلاد الشام وقدّموا أبحاثاً عن مجمل أوجه الحياة في سوريا. هناك أبحاث كتبها مختصّون تتناول تاريخ ومعتقدات جميع الطوائف والإثنيات في سوريا، وآخرون قدّموا تقارير عن المناطق الاستراتيجية الضرورية للمزيد من الاستيطان، وكذلك جرى تجنيد مختصّين للبحث في مصادر المياه وأنواع النباتات والأشجار… إلخ. باختصار، كان أمام القادة الصهاينة معلومات مكثفة عن الأوضاع في سوريا، واستناداً إلى تلك المعلومات كانت ترسم السياسات.

كان الصهيوني الدمشقي إلياهو ساسون (1902- 1978) قد لعب دوراً بارزاً في النشاط الصهيوني الذي استهدف بشكل خاص لبنان، الشام، العراق، وشرق الأردن، بعد توليه منصب رئيس القسم العربي في الوكالة اليهودية بين 1933 و1948. وإثر ثورة حائط البراق في فلسطين عام 1929، خصص الصهاينة أموالاً ضخمة وكثفوا اتصالاتهم العربية بهدف تخفيف حدة المعارضة العربية لاستيطان فلسطين. لذلك تولّى إلياهو ساسون، بمعاونة فريق صهيوني، عمليات التسويق لنوايا الصهاينة «السلميّة»، وفي الوقت ذاته شراء الولاءات. كما أصدروا عدة صحف بالعربية في فلسطين منها «السلام»، «النفير»، «مرآة الشرق». وأصدروا في مصر بالعربية «الكليم»، و«الشمس»، إضافة إلى عشر صحف باللغة الفرنسية. وغطّت الصحافة الصهيونية معظم أقطار المغرب العربي.

أمّا في لبنان، فكانت صحيفة «العالم الإسرائيلي» الناطقة الرسمية باسم الطائفة اليهودية، وبالتالي الوكالة اليهودية. وسبق لي أن نشرت في «الأخبار» مقتطفات من تقارير أمنية فرنسية تشرح تفاصيل لقاءات مسؤولي الوكالة اليهودية مع أصحاب الصحف الذين كانوا يتلقّون الرشاوى.

 

كانت أولويات الصهاينة شراء أصحاب الصحف والمجلات العربية، ونشر مقالات في أجهزة الإعلام تؤيّد التوجّه الصهيوني، وكانت غالبية تلك المقالات بقلم إلياهو ساسون كما جاء في مذكراته. وتُظهر محاضر اجتماعات ساسون وأعوانه مع أصحاب بعض الصحف أن هدفها أمس كما هدفها اليوم، مع الفارق أن التمويل كان آنذاك من خزينة الوكالة اليهودية، في حين أن التمويل الحالي عربي المصدر.

في كتاب ساسون مجموعة رسائل مستقاة من مصادر أمنية تعمل لصالح الوكالة اليهودية تتحدّث عن الاتصالات التي جرت مع سياسيين ومع بعض أصحاب الصحف وتجنيدهم مقابل بدل مالي ليكونوا أبواقاً للإعلام الإسرائيلي، إلى جانب تفاصيل عن انهماكه في كتابة عشرات المقالات لنشرها في الصحف التي تم شراء أصحابها. وهذه مقاطع من إحدى تلك الرسائل:

 

بيروت 10 تشرين الأول 1937

إلى العزيز الدكتور برنارد جوزيف (1)،

تمكّنتُ خلال النهار من كتابة نحو اثني عشر مقالاً، ودعوتُ «أ…» للحضور إلى بيروت لتسليم المقالات لصحف المدينة صباح الغد. وإذا انتهينا من العمل غداً في بيروت، فسنتوجه مساءً إلى حلب، حيث جميع المقالات تقريباً جاهزة لصحفها.

أفادت مصادر بأن جهوداً تُبذل في دمشق لحث بعض أعضاء مجلس الشعب السوري على طرح قضية «أرض إسرائيل» فلسطين في أولى جلساته المقرر عقدها في التاسع عشر من الشهر الجاري، وإجباره على إصدار بيان تعاطف مع العرب الفلسطينيين.

أقترح أن تطلبوا من جماعتنا في لندن وباريس السعي لدى حكومتي بريطانيا وفرنسا لإقناع سوريا ومصر بعدم السماح لمجلسيهما بالتدخل في القضية الفلسطينية من خلال بيانات تعاطف أو نقاشات.

صدرت في دمشق صحيفة يومية جديدة تحمل اسم «المستقبل»، يرأس تحريرها جلال عوف المعروف بصلاته الوثيقة بالإيطاليين، ويعاونه جمال الفاروقي نجل الشيخ سليمان الفاروقي، رئيس تحرير «الجماعة الإسلامية». تُخصِّص الصحيفة مساحة واسعة لقضية «أرض إسرائيل» فلسطين، وتتبنى خطاباً داعماً للمفتي وأنصاره. ومن الواضح أن تمويل هذه الصحيفة مصدره إيطاليا، بهدف تأجيج المشاعر القومية في سوريا وإثارة العداء لإنكلترا واليهود.

أرفق مع هذه الرسالة مقالتين نُشرتا في عدد هذا الصباح، وأرى أنه من الضروري مطالبة حكومة الانتداب في فلسطين بمنع دخول هذه الصحيفة إلى البلاد. كما أرفقت المقال الذي سيُنشر باسمنا في صحيفة «الدستور» بحلب، آملاً أن يشجع ذلك هذه الصحيفة على نشر المزيد من المقالات المماثلة. وأقترح ترجمة المقال كاملاً وإرسال نسخة منه إلى ويلينسكي (2) في القاهرة ليعرض مضمونه في نشراته.

نشرت صحيفة «بيروت» في الخامس من الشهر الماضي خبراً عن استعداد سكان شارع الميدان في دمشق، في منزل محمد الأسمر، للسفر إلى فلسطين، والتحصن في الجبال وشن هجمات ضد الإنكليز واليهود. وقد نفى وزير الحربية السوري هذا الخبر رسمياً، مؤكداً أن مروجيه يهدفون إلى إحراج الحكومة السورية.

وبحسب معلومات وردت من ( أ…)، فقد وصل في الأيام الأخيرة عدد كبير من الشباب العرب من «أرض إسرائيل» فلسطين إلى دمشق. ويزور عدد كبير منهم مكتب جلال عوف. ويبدو أن الحكومة السورية بدأت تشك فيه، فوُضع محققون على باب مكتبه لتسجيل أسماء الزوار. وذُكر من بينهم محمد الأسمر وشقيق أرسلان.

أرفق كذلك صورة المفتي التي نُشرت اليوم في صحيفة «النشرة» إضافة إلى مقالٍ معادٍ لليهود بقلم كاتب من حمص.

من الجدير بالذكر أن جميع الأخبار المنشورة في الصحف اللبنانية والسورية حول الوضع في «أرض إسرائيل» فلسطين تأتي بصياغة واحدة وأسلوب واحد، ما يعني أن مصدراً واحداً يزوّد الصحف بهذه الأخبار. وأعتقد أن هذا المصدر هو مكتب الدعاية التابع للمجلس الإسلامي الأعلى في القدس، إذ إن جميع الأخبار تُمجّد المفتي وأنصاره. لذا أرى من المفيد مطالبة السلطات بانتقاد هذه الرسائل المرسلة من المكتب إلى الدول المجاورة.

علينا أن نتوقع تصاعداً في الدعاية العدائية ضدنا في سوريا، خاصة بعد سماح الحكومة السورية بإصدار الصحف التي كانت موقوفة مثل «القبس» و«ألف باء» و«لي أيكو» (Les Echo).

هوامش

(1) برنارد جوزيف صهيوني كندي الأصل هاجر إلى فلسطين عام 1918. تولى سنة 1933 مسؤولية المستشار القانوني للوكالة اليهودية.

(2) ناحوم زيلنسكي أسس في القاهرة، بتوجيه من الوكالة اليهودية، وكالة أنباء أطلق عليها اسم «الوكالة الشرقية» وكانت توزع المقالات والأخبار على نطاق واسع في الأقطار العربية والخارج بعد ترجمتها إلى اللغات الأجنبية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى