كتب

سيدني لوميت: إنتاج الأفلام عملية تقنية ووجدانية وطريقة حياة

محمد الحمامصي

المخرج الأميركي يقدم خلاصة خمسين عاما من السينما.

 

يشاهد المتفرجون الفيلم عملا متكاملا كقصة لها بنيتها الدرامية وشخصياتها وغير ذلك مما يجعل الفيلم عملا فنيا متكاملا. لكن ما لا يعرفه المتفرج هو أن الفيلم ليبلغ هذه المرحلة يمر بمراحل معقدة وشاقة أحيانا في الكتابة ثم الإخراج والتصوير والتمثيل والمونتاج، وكل عملية من هذه لها متطلباتها. متحدثا عما نجهله من تشعبات إنجاز الأفلام السينمائية يقدم الأميركي سيدني لوميت كتابه “فن الإخراج السينمائي”.

يجمع المخرج والمنتج والكاتب السينمائي الأميركي سيدني لوميت (1924- 2011) بين الفن والحرفة، ففي الوقت الذي يجيد فيه صناعة الأفلام بشكل تقني وأسلوب رفيع تجعل اهتماماتُه الإنسانية العميقة أفلامَه متفردة في أبعادها الفنية الخاصة بها، حيث يمثل كل فيلم بالنسبة إليه رحلة جديدة ورؤية طازجة في أعماق النفس البشرية.

في القلب من أعماله توجد دائما مشكلة إنسانية أو اجتماعية، سواء كانت مأخوذة من أحداث حقيقية أو مقتبسة عن أعمال روائية أو مسرحية، ورغم الأسلوبية الفائقة في بعض هذه الأفلام، فإنه يجعل الأسلوب دائما في خدمة الفكرة الجوهرية في فيلم من أفلامه.

الكاتب والممثل

يقدم لوميت، الذي يعد واحدا من أكثر المخرجين الأميركيين غزارة في الإنتاج، في كتابه “فن الإخراج السينمائي” الذي ترجمه الأكاديمي أحمد يوسف، خلاصة رؤى وأفكار مسيرته السينمائية كتابة وإخراجا وصناعة وعلاقة بنجومه وكتاب السيناريو والمصورين والفنيين العاملين في الكهرباء ووراء الكاميرا، وذلك عبر خمسين عاما، منذ بدايته في عام 1957 وفيلمه “12 رجلا غاضبا” مرورا بأفلام “دانييل” و”رحلة اليوم الطويل إلى الليل” و”جريمة قتل في قطار الشرق السريع” و”النوع الهارب” و”العلاقات القاتلة”، وانتهاء بأكثر من خمسين فيلماً تميل في معظمها إلى النزعة الواقعية الاجتماعية، بالرغم من أنه تناول مختلف الأنماط الفيلمية.

بداية يقول لوميت “ليست هناك طريقة صحيحة أو خاطئة في إخراج الأفلام، وما سوف أكتب عنه هو كيفية إخراجي للأفلام، سوف أحاول أن أخبركم بقدر ما أستطيع كيف تصنع الأفلام، إنها عملية تقنية ووجدانية، إنها فن واقتصاد، إنها مؤلمة وممتعة، إنها طريقة عظيمة للحياة”.

ويضيف “أتيت من عالم المسرح حيث عمل الكاتب مقدس. إن تنفيذ مقاصد الكاتب هو الهدف الأول لإنتاج المسرحية كلها. وكلمة ‘مقاصد’ تستخدم بمعنى التعبير عن سبب الكاتب لكتابته المسرحية، وفي الحقيقة وكما هو محدد في عقد نقابة كتاب الدراما، فإن للكاتب الكلمة الأخيرة في كل شيء، اختيار الممثلين والديكورات والأزياء والمخرج، بما في ذلك الحق في إغلاق المسرحية قبل افتتاحها إذا كان غير راض عما يراه على خشبة المسرح. أعرف حالة واحدة حدث فيها ذلك. لقد نشأت مع فكرة أن الشخص الذي كان يملك الفكرة الأولى الذي عانى عبر ألم ولادتها على الورق هو الشخص الذي يجب إرضاؤه”.

ويتابع “عندما أقابل كاتب السيناريو للمرة الأولى لا أخبره أبدا بأي شيء حتى لو كنت أشعر بأن هناك الكثير من التعديلات، وبدلا من ذلك أسأله نفس الأسئلة التي سألتها لنفسي: حول ماذا تدور القصة؟ ماذا رأيت فيها؟ ماذا كان مقصدك وإذا كانت الإجابات مرضية، ماذا تريد من المتفرج أن يشعر ويفكر ويحس؟ في أي حالة مزاجية تريد أن يخرج الجمهور من قاعة العرض؟ إننا شخصان مختلفان يحاولان الجمع بين مواهبهما: لذلك من المهم أن نتفق على مقصد السيناريو”.

ويبين أنه في ظل أفضل الظروف فإن ما سوف يظهر هو مقصد ثالث، غير ما كان هما الاثنان يريانه في البداية، وفي ظل أسوأ الظروف، يمكن أن تحدث عملية معذبة من الأهداف المتعارضة، سوف تؤدي إلى شيء بلا هدف، مشوش، أو مجرد شيء سيئ سوف يظهر على الشاشة. ويذكر أنه كان يعرف مخرجا يفتخر بنفسه دائما لأن لديه خطة سرية سوف يسربها إلى الفيلم، لعله كان يحسد موهبة الكاتب.

ويرى أنه في بعض الأحيان تصبح العلاقة بين الممثلين والكتاب محفوفة بالمخاطر بحق. ويجب عليه باعتباره مخرجا أن يكون شديد الحذر هنا، إنه يحتاج كليهما. ومعظم الكتاب يكرهون الممثلين. لكن النجوم هم الأساس في موافقة الأستوديو على الفيلم، لبعض المخرجين سلطة هائلة، لكن ليس هناك من يتمتع بسلطة أحد النجوم الكبار. إذا أمر أحد النجوم فسوف يستغني الأستوديو عن الكاتب في ثلاثين ثانية، وعن المخرج أيضا.

ويواصل لوميت “في معظم الحالات كنت أقوم بما يكفي من العمل حتى لا تثور مثل هذه الأزمة، وأصل إلى اتفاق مع الكاتب قبل التعاقد مع النجم، وتكون لي مناقشات مستفيضة مع النجم حول السيناريو قبل أن نقرر الاستمرار في العمل. إن أغلب الممثلين أذكياء تماما، برغم إعلان هيتشكوك غير ذلك. وبعضهم بالغ البراعة مع السيناريو، إن شون كونري وداستين هوفمان وجين فوندا وبول نيومان يقدمون مساعدات مدهشة في هذا المجال. أما باتشينو فهو لا يدهش في فصاحته، لكن له إحساسا فطريا بالصدق، فإذا كان هناك مشهد أو سطر حوار يضايقه يجب أن أنتبه إلى ذلك، فالأغلب أنه على حق”.

الكشف الذاتي

يكشف لوميت أن الأسلوب الجيد بالنسبة إليه هو الأسلوب غير المرئي، ويوضح “إنه الأسلوب الذي يتم الإحساس به، إن أسلوب كيروساوا في فيلم ‘ران’ (Ran) مختلف عن الأسلوب في ‘الساموراي السبعة’ (The Seven Samurai) أو ‘أحلام كيروساوا’ (Kurosawa’sDreams)، ومع ذلك فإنه من المؤكد أنها أفلام كيروساوا، ومن الناحية الأسلوبية فإن ‘نهاية العالم الآن’ (Apocalypse Now) و’الأب الروحي’ (The Godfather) في جزأيه ليس بينهما شيء مشترك، مع أنها جميعا أفلام فرانسيس فورد كوبولا. وأحد مصادر الفروق البصرية الكبيرة في هذه الأفلام هو المصور فقد قام فيتوريو سورارو بتصوير الفيلم الأول وجوردون ويليس بتصوير الأخيرين”.

ويؤكد المخرج أن أي فيلم هو خلق فني مصنوع بواسطة أناس تجمعوا لاكتشاف قصة، والقصص تتخذ أشكالا مختلفة. هناك أربعة أشكال رئيسية لحكاية القصص: التراجيديا والدراما والكوميديا والفارس، وليس هناك شكل مطلق منها. ويذكر أنه في فيلم “أضواء المدينة” انتقل شابلن من شكل إلى آخر برشاقة تجعلك غير واع أبدا في أي شكل منها أنت.

علاوة على ذلك فإن هناك تقسيمات فرعية للدراما والكوميديا. هناك في الدراما النزعة الطبيعية كما في فيلم “بعد ظهر يوم لعين” والواقعية كما في “سيربيكو”، وفي الكوميديا هناك الكوميديا الراقية “قصة فيلادلفيا” والكوميديا المنخفضة “آبوت وكوستيللو يقابلان ما تسميه”، وبعض الأفلام تحتوي بشكل متعمد على أكثر من شكل، ففيلم “عناقيد الغضب” مزيج من الكوميديا المنخفضة والفارس. ليست تلك عناصر دقيقة يمكن قياس كميتها، وفي الكثير من الأحيان تتدخل، وما يحاول لوميت دائما تحديده هو المنطقة العامة التي يعتقد أن الفيلم ينتمي إليها؛ لأن الخطوة الأولى في العثور على الأسلوب هي أن يبدأ تضييق الخيارات التي يجب عليه اتخاذها.

ويتابع لوميت “إنني أحب الممثلين، إنني أحبهم لأنهم شجعان، وكل العمل الجيد يتطلب نوعا من الكشف الذاتي. الموسيقي يوصل الأحاسيس من خلال الآلة التي يعزف عليها، والراقص من خلال حركات الجسد، وموهبة التمثيل هي إحدى المواهب حيث يتم توصيل أفكار وأحاسيس الممثل على الدوام إلى المتفرج. بكلمات أخرى فإن الآلة التي يعزف عليها الممثل في ذاته، ونفسه، وأحاسيسه، ملامحه الجسمانية، دموعه، ضحكه، غضبه، رومانسيته، رقته، شره، ويجب أن يكون ذلك جميعه على الشاشة لكي نراه، إن هذا ليس سهلا، بل إنه عادة ما يكون مؤلما”.

ويبين أن هناك العديد من الممثلين يعيشون وينسخون بذكاء كل تفصيلة سوف تكون مضبوطة، تمت العناية بها على نحو جميل. ومع ذلك فإن هناك شيئا مفقودا. الشخصية ليست حية. متابعا “إنني لا أريد الحياة منسوخة ومقلدة على الشاشة، إنني أريد حياة تم خلقها، والفرق يكمن في درجة الكشف الذاتي للممثل”.

تقنيات العمل والفنيين

يعتبر لوميت الكاميرا أفضل صديق ويقول “أولا وقبل كل شيء لا تستطيع الكاميرا أن ترد عليك، إنها لا تستطيع أن تسأل أسئلة غبية، ولا أسئلة ذكية تجعلك تدرك أنك كنت على خطأ طوال الوقت، إنها ‘كاميرا’ لك: يمكنها أن تعوض أداء ضعيفا وأن تجعل أداء جيدا أداء أفضل وأن تخلق مزاجا عاطفيا، وأن تخلق القبح والجمال وتقدم الإثارة، كما يمكنها اقتناص جوهر اللحظة وإيقاف الزمن وتغيير المكان وتحديد الشخصية، وأن تصنع نكتة ومعجزة وأن تحكي قصة”.

ويضيف “إذا كان في فيلمي نجمان فإنني أعرف أنه يوجد لدي في الحقيقة ثلاثة نجوم فالنجم الثالث هو الكاميرا. هناك أربعة عناصر

أساسية تؤثر في الصورة التي تصنعها الكاميرا، أولا هناك الضوء الموجود حتى قبل أن يدخل العدسة، فهذا الضوء يمكن أن يكون طبيعيا، أو اصطناعيا أو مزيجا منهما. وثانيا هناك فلاتر الألوان والشبكات التي توضع خلف العدسة التي تحدد كمية الضوء الذي يمر من خلال العدسة ويسقط على الفيلم. وهناك عوامل أخرى مثل زاوية الغالق، والفيلم الخام السالب، وما إلى ذلك لكن يكفي الآن هذه العناصر الأربعة”.

ويوضح أن كل فيلم أنجزه كان له نوع من العناية بالكاميرا. العمل مع المصور يكون بدرجة القرب من العمل مع الكاتب والممثلين. إنه قد يضر هدفه بصفته مخرجا من إنتاج الفيلم، أو يحقق هذا الهدف بعظمة، وخلال التصوير تكون العلاقة الأقرب إلى المخرج مع المصور، وهذا هو السبب في أن أغلب المخرجين يعملون مع مصور واحد عاما بعد عام، طالما الأسلوب يمكن أن يتحقق.

ويلفت لوميت إلى أن الاعتبار الأهم عنده هو أن التقنيات تأتي من المادة، إذ يجب أن تتغير التقنيات مع تغير المادة، من المهم أحيانا ألا تفعل شيئا مع الكاميرا، قم بالتصوير مباشرة، وبنفس القدر من الأهمية عنده أن كل هذا العمل يظل مختبئا، عمل الكاميرا الجيد ليس صورا جميلة، إنه يجب أن يؤكد على التيمة ويكشف عنها كما يفعل الممثلون والمخرجون.

ويؤكد أنه لا يوجد قرار غير مهم في السينما؛ فبالإضافة إلى الكاميرا، فإن الإخراج الفني (الديكورات) والأزياء هما أهم عناصر خلق الأسلوب، أو المظهر الخاص بالفيلم، واسم من يقوم بهما الآن هو مصمم الإنتاج، وقد ظهر هذا اللقب لأول مرة عندما كان ويليام كاميرون مينزيس هو مصمم إنتاج فيلم “ذهب مع الريح” وكان مسؤولا عن كل عنصر بصري في الفيلم، ليس الأزياء والديكورات فقط، ولكن أيضا الكاميرا والمؤثرات الخاصة (حريق أطلانطا)، ثم عمل المعامل في نسخ العرض، والآن فإن لقب مصمم الإنتاج هو الاسم الساحر للمخرج الفني.

ويوضح لوميت أن العمل الجيد يأتي من الشغف به، لذا عندما يصل إلى غرفة المونتاج وطباعة الفيلم فإنه لا يستطيع أن يتظاهر فجأة بكونه موضوعيا، يقول “لست موضوعيا، إنني مثل الهداف الذي يرى الكرة متجهة إلى المرمى، إنه يصلي لكي تدخل، إنني أريد للفيلم أن ينجح، لكن يجب أن أكون في غاية الحرص وأنا أتفرج. كيف أحافظ على الشغف، لكني أحكم بشكل واقعي على إذا ما حققنا ما نصبو إليه؟”.

ويضيف “أحيانا، وخلال تصوير الالتقاطة أكون مقتنعا بأنها مثالية، لكن نفس الالتقاطة -عندما أراها في عرض اللقطات اليومية- تجعلني أشعر بطعم لاذع للإخفاق. وأحيانا فإن التقاطة قد لا ترضيني تماما خلال التصوير لكنني عندما أراها أجدها رائعة، وأحيانا أخرى أعتقد في موقع التصوير أن الالتقاطة 2 أفضل من الالتقاطة 4، لكني اكتشفت أن العكس هو الصحيح، إنني أعتقد أنني أفعل الشيء ذاته خلال التصوير، إنني أشارك وأندمج في المشهد الذي أراه وإذا انقطع تركيزي فإن هناك شيئا ما خطأ. إن رؤية اللقطات شديدة الصعوبة، لا يعرف الكثير من الناس بها أو عن ماذا يبحثون فيها؟”.

ويواصل المخرج الأميركي “أحيانا أطبع التقاطة لأنني أريد لحظة دقيقة واحدة منها، لكنني الوحيد الذي يعلم ذلك، ويجب على المونتيرين أن يكونوا قادرين على رؤية اللقطات اليومية بشكل بناء، إذا يجب عليهم تحقيق الصلة مع المادة ومع المخرج معا، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الموضوعية. إنهم يضطرون أحيانا إلى تأجيل الحكم، قد لا يدرك المونتير أحيانا أنني صورت مشهدا بطريقة معينة؛ لأنني أقصد أن أصور المشهد السابق أو اللاحق بطريقة معينة أيضا، وأنا لم أصور المشهد السابق أو اللاحق بعد، وأن يتضح معناه الدرامي إلا بعد توليف المشهدين معا”.

ويرى سيدني لوميت أن أكثر المخرجين نجاحا كانت لهم حرية أكثر قليلا، لكن ليس الكثير من الحرية، ورئيس قسم المونتاج يحضر عرض كل اللقطات اليومية، وإذا كان يعتقد أن أحد المشاهد لم تتم تغطيته بشكل كاف، فإنه يخاطب نائب رئيس الأستوديو المسؤول عن الإنتاج، أو حتى رئيس الأستوديو الذي يأمر بتصوير المزيد من المادة ليقوم المخرج بتصويرها.

ويضيف “هذا النظام يدمر أية أصالة في تصوير أي فيلم، وبالاضافة إلى ذلك فإنه يضع الممثلين في جحيم بسبب الإعادات التي لا تنتهي لنفس المشهد، وما يتبع ذلك من أهمية أخذ نفثة من السيجارة عند جملة الحوار في كل من زوايا الكاميرا الثماني. وبالطبع فإنه سوف تكون لكل زاوية التقاطات عديدة. وإذا أخطأ الممثل، وأخذ نفثة من السيجارة عند جملة حوار خطأ سوف تكتب فتاة الاسكريبت ذلك في ملاحظاتها، والتي يتم بالتالي إرسالها إلى غرفة المونتاج. وفي العادة فإن المونتير سوف يتجاهل التقاطة تمثيل ممتاز، لأن مهمته تكون أسهل إذا ما استخدم التقاطة كانت فيها السيجارة متطابقة”.

صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى