سيرة أتاتورك: حين تطرق الدراما التركيّة أبواب التاريخ
يقول المفكّر الفرنسي جان بودريار أنّ الإعلان في عصر الصورة الذي نعيشه اليوم، أصبح أكثر واقعية من الواقع نفسه ليغذي عقولنا بكمّ هائل من «الحقائق» المزيفة. ويبدو أن قناة «أم بي سي 1» تطبّق هذا الدرس بحذافيره بإعلانها عن عرض فيلم «أتاتورك» المقتبس من مذكرات صالح بوزوك، وهو أحد الذين رافقوا مصطفى كمال أتاتورك في مسيرة حياته من الطفولة إلى الموت. تستخدم القناة الكثير من الصور المثيرة في إعلانها عن عرض الفيلم، وتصفه بأنَّه واحد من أبرز الأفلام التي تناولت سيرة حياة مؤسس الجمهورية التركية الحديثة. وفي الترويج للعمل على موقع القناة على الانترنت، نقرأ إنّه عند ذكر اسم أتاتورك «تزلزل الأراضي التركية إلى اليوم وإلى أجل غير مسمى». كلّ ذلك يزيد من قناعة المشاهد بعظمة ما يراه على الشاشة، ليتبيّن بعد المشاهدة أنّ الفيلم المعدّ للعرض التلفزيوني، لا يرقى في حبكته إلى مستوى ذلك الإعلان المكثف، ولا إلى أثر أتاتورك نفسه في التاريخ.
تعتمد حبكة الفيلم على رسالة مطولة يكتبها بوزوك إلى ابنه ليبرّر له إقدامه على الانتحار عند موت أتاتورك، وليحكي له قصّة حياته برفقة ذلك القائد الذي غير وجه السلطنة العثمانية المحتضرة. يبدأ بوزوك قصته من طفولة أتاتورك المبكرة في بلدة سالونيك التي كانت في تلك الأيام، على ما يبدو في الفيلم، تشهد حالة يوتوبيّة من الوحدة الوطنية التي لا يمكن تصويرها سوى بمزج صوت جرس الكنيسة مع صوت الآذان. ثم يقفز الفيلم إلى الفتى مصطفى، الطالب في المدرسة الحربية، وهنا لا تختلف الدراما التركية عن أي دراما عربيّة تحكي عن شخصية تاريخيّة ما؛ فلا توجد طريقة تثبت عظمة هذا الشخص ونبوغه المبكّر سوى في تصويره قائداً منذ الصغر يسيطر على أترابه ويقودهم إلى الانتصار في حروبهم الطفوليّة.
ينتقل المشهد إلى الضابط مصطفى الممتلئ طموحاً ووطنيّة وإقداماً من دون أن نرى ما أثر في شخصيته وصقلها خلال تلك السنوات ليصبح في ما بعد ذلك القائد الفذّ. وعدا مشهد واحد في معركة غاليبولي، حيث يتقدّم جنوده بشجاعة محقّقاً نصراً على الإنكليز قلب فيه ميزان المعركة، لا نرى الكثير من عظمة أتاتورك العسكرية في الفيلم، بل ولا نرى الصراع المرير الذي خاضه لكي يتغلب على منافسيه وأعداءه، ويصل إلى قمة السلطة في بلاده. وحتى شخصية أتاتورك الحادّة والصداميّة، كما يصفها هارولد أرمسترونغ في سيرة كتبها عنه ملقباً إياه بـ «الذئب الأغبر»، قلما نراها في العمل، بل كثيراً ما نراه في حوارات هادئة أو مرحة مع أصدقائه ومعارفه تتقاطع مع مشاهد درامية فانتازية إذ نرى والده على فراش الموت يتنبأ له أنه سيصبح أهم شخص في الجيش، أو عرافة في أسواق ليبيا تتنبّأ له بأنه سيصبح سلطاناً.
ينجح الفيلم مشهدياً من خلال تصوير مميّز يركِّز لقطاته ضمن زوايا ذكيةّ وانتقال سلس للكاميرا تحت إدارة الألماني بيتر ستوغر. وجاءت الموسيقى التي وضعها ليفانيلي نفسه لتمزج بين الألحان الشرقيّة العذبة والأغاني التركيّة التقليديّة، وتحكي مكنونات الشخصيّات وصراعاتها الداخليّة.
قد لا تبدو سطحيّة العمل مستغربة لمتابعي الدراما التركيّة عموماً. فالأعمال الدرامية التركية غالباً ما تكون ثنائيّة الأبعاد بشخصيّات كرتونيّة، وهي تبنى على حبكات ضعيفة أساسها قصص الحب العاصفة والفاشلة في آن، والتي تشبه إلى حد بعيد قصة أتاتورك مع كل من فكرية ولطيفة كما صور الفيلم. ولطالما كانت «أم بي سي» عرابة موضة الدراما التركيّة الكاسحة تلك، والتي تعتبرها القناة بديلاً «رخيصاً» عن الإنتاجات العربيّة.
يستحقّ أتاتورك فيلماً أعمق يداني على الأقلّ التغطيّة الإعلاميّة الكثيفة التي ينالها قادة تركيا اليوم، بدلاً من أن يتمّ تصويره ــ من ضمن منظور تلك الثقافة الدرامية ــ ليظهر مثل أي بطل مسلسل تركي: جنتلمان يجمع في شخصيته الوسامة والجرأة واللطف والسلطة، ليكون معبود النساء والمثل الأعلى للرجال، ويصادف أن اسمه مصطفى كمال أتاتورك.
صحيفة السفير اللبنانية