سيرة أم درمان يكتبها جمال محمد ابراهيم
يروي الكاتب السوداني جمال محمد إبراهيم في روايته «دفاتر القبطي الأخير» (دار مدارات- الخرطوم) سيرة المسامحة أو المسالمة في مدينة التراب «أم درمان». سيرة قبول الآخر، الذي هو أنا أو أنت. وكم تمنيت وأنا أقرأ النص لو ان كل المدن والحواضر العربية فيها شيء من روح أم درمان. صورة الغنى والتنوع والوحدة. صورة الذات والآخر في كيان كينونة واحدة. صورة التقاليد التي تصون البلاد من العنف. السرد هنا كلام يساوي الحياة.
اطلّع الراوي على كراسات القبطي القديم بطرس ميلاد سمعان. وكتب متدفقاً حتى اشتبكت دموع في عيون فإذا رطوبة العين من رقراق القلب. وإذا الكلام بعض تنهدات الروح. سمعنا الصرخة ضد الظلم الواقع، على رأس القبطي القديم الذي خدم بلده متفانياً وفي ذروة أزمته المرضية يستغنى عن خدماته ويُترك في براثن الحجود والنكران وفي أشداق الموت. الظلم لا يحتمل وإذا وقع تضيق الأرض. يطرح جمال محمد إبراهيم قضية مهمة وأساسية في روايته ويرفع سؤالاً صعباً:
كيف يمكن أن نرفع الظلم عمّن أصابه الظلم في بلادنا؟ وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند، يقول الشاعر. كيف نرفع الظلم؟ بأن يكون الحق مكفولاً للجميع. حق العدالة التي تبرر كل شرعية. بأن نبني المجتمع ونبني دولة القانون والمؤسسات وأن نبني المواطنة والإنسان.
أن نكون إخوة حقاً بلا فضل أو امتياز. أن نحقق هويتنا ووحدة الثقافة والمجتمع. ذات مرة أوجعني كلام الشاعر المصري القبطي مينا مجدي حين قال: «والله يا مصر أنا مش عارف إنت أمي ولا مرات أبويا». وبطلنا عزيز سمعان بطرس سوداني قبطي لطائفته جذور في التراب وفي أغصان الكرمة وفي غنى نسيج مجتمعنا وروافد تاريخنا.
يلتمس المرء في هذا الكتاب طبقات الذاكرة والنسيان والألم تتراكم، وألواح الصور تنكسر وتلتئم، ويدرك أن البطولة الحقة أولاً وأخيراً في أن يكون الإنسان في مكانه في الدنيا عزيزاً كريماً راضياً عن كل مستويات التعامل معه كإنسان في المجتمع والدولة والمؤسسات. وحسناً أن هذه الدفاتر لم تذهب بها الريح بل حفظتها أوراق الكتاب في سردية حاذقة متقنة مكثّفة مدونّة في قوام بارع من حيث الحبكة والصياغة الفنية والجمالية. كل حكاية هي رواية، وكل رواية هي اختراع جديد للحياة. وكل رواية هي سيرة ذاتية على حد قول موديانو، وكل سيرة ذاتية هي محاولة للهرب من كتابة الرواية. وأسال: هل كان الروائي منشغلاً بصورة لبطله أم بصورة لنفسه؟ وماذا عن صورة المجتمع؟ وهل استطاع الراوي أن يقدّم صورة مقعنة عن سلوك وتجليات المجتمع في هذه المسألة؟
وجمال محمد إبراهيم يشعرنا في ما يكتب بالإمتاع والمؤانسة عبر لغة شعرية مترعة بالحنين والأسى. رواية عامرة بالسلاسة يمتزج فيها الواقع والمتخيل امتزاجاً خلاقاً. حاول الراوي أن يقاسم قارئه رغيف الخبز، وأن يشاركه حسناً سقاه ما استطاع من ماء الزهر، وألبسه ما استطاع من خميلة الحرير، وفوحه بين يديه حتى هبت رائحة الياسمين.
رواية «دفاتر القبطي الأخير» فيها أحزان تتحاذى ومواجع تتفتّح وأرواح تتآلف وأزمنة تتصل وتنفصل وأصوات هامسة تكظم الغيظ وكآبات وغربة وحنين وأناس يتألمون ويمسكون فيأتي الكاتب ليلطف ويقطف ببعضهم وكأنه يتنزّه في قلوبهم. رشيق وشيّق أسلوب جمال محمد إبراهيم ولا ارتباك على بيانه. بل يرسل حيث يجب وينقطع إلى بساطة محبّبة إذا دعته الحال. وينتقل بك بيراعه إلى سرد مستعذب ولعلها ميزة أهل الإجادة والإبداع في التأليف. ثمة نقطة أثارها الكاتب وهي أصالة الذين عاشوا قبلنا بأفكار بسيطة.
ونظروا إلى الحياة والإنسان والوطن وما فرّقوا أو افترقوا ولا غابوا أو رحلوا. ويحنّ إبراهيم إليهم حنيناً صادقاً ويحنّ إلى ذلك الزمن الذي صنعه أناس قلوبهم من نور وعقولهم من ذهب وإرادتهم من حديد. أعطوا وأحبوا وبنوا وعاهدوا وصنعوا القيم بلا عقد. وقفوا مثل شجر الشوارع. مثل التراب في مدينة التراب، مثل الأيام وآمنوا بما قصده المتنبي «لا يمكن المكان الرحيل».
تأخذنا الرواية إلى عوالم السودان وإلى بكين (الصين) زمن الفترة الشيوعية. يحتشد نصه بالتفاصيل والمشاهدات. ولعله لا يولي اهتمامه بالبعد الصراعي للشخصيات بقدر شغفه بأن يروي ويقول. وتظلّ الفكرة التي تلحّ عليه فكرة ألا يغيب أحد عن دوره ولا عن أهله ولا عن تاريخه. وأخيراً ، لا يمكن التخلي أبداً عن قوة وتأثير فكرة المسامحة والمسالمة النبيلة التي طرحها جمال محمد إبراهيم في روايته، وذلك لعدم وجود حلّ آخر، ليس لمأزقنا فقط بل لتاريخ البشرية برمته.
صحيفة الحياة اللندنية