سيرة الإسكندرية الإسلامية
القاهرة ـ من وكالة الصحافة العربية
أنشأ الاسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 332 ق. م وفي عام 641 تمكن العرب من فتح مصر لتدخل الاسكندرية بعد ذلك في العصر الإسلامي.
وقد رحب أقباط الاسكندرية بقدوم العرب إلىها وساعدوهم على هزيمة الحامية الرومانية التي كانت لا تزال متحصنة بالمدينة، وعرف ذلك باسم الفتح الإسلامي الأول. أما الفتح الإسلامي الثاني للمدينة فكان بعد أربع سنوات من الفتح الأول عندما تآمر بعض سكان المدينة الروم مع الإمبراطور الروماني قسطاتز وأرسلوا إليه بأموال المدينة وبأخبارها وعدد القوات الموجودة بها بعد أن اتخذ العرب عاصمة أخرى للبلاد هي مدينة الفسطاط، فتجددت أطماع الامبراطور الروماني مرة أخرى في مصر وأرسل إليها حملة بحرية انضم إليها المتآمرون وتمكنوا من دخول المدينة، وكان ذلك في عهد الخليفة "عثمان بن عفان" الذي أرسل حملة عسكرية بقيادة "عمرو بن العاص" تمكنت من استرداد المدينة مرة أخرى وهو ما عرف بالفتح الثاني. وبعد الفتح الإسلامي الثاني بدأت الاسكندرية حركة التعريب الكبرى حيث تخلت عن طابعها الغربي لتقترب من عادات الشرق وتقاليده خصوصاً بعد أن لمس ساكنوها سماحة المسلمين وحسن تعاملهم.
• ذات الصواري
وقد ازدهرت في الاسكندرية صناعة السفن وأصبحت مركزاً عالمياً لصناعة السفن الحربية وبرع المصريون في فنون القتال البحري، وحقق العرب فيها أول انتصار كبير للإسلام عندما هزموا الروم في معركة "ذات الصواري" والتي سميت بذلك الاسم لكثرة صواري السفن المشاركة فيها. وكانت هذه الموقعة بداية الفتوحات الإسلامية الكبرى التي انطلقت من الإسكندرية لتنشر نور الإسلام في مزيد من البلدان على البحر المتوسط.
وعهد "أحمد بن طولون "بالإسكندرية إلى ابنه العباس أن يعنى بها عناية شديدة حيث قام بتحصين سواحلها وأحاط مناطقها العامرة بالسور الطولوني، وقام بترميم منارة الاسكندرية، واهتم بن طولون بالصناعة وعلى وجه التحديد بصناعة السفن الحربية وصناعة المنجانيق وآلات الحرب، وقام بحفر الخليج الذي ساعد على زراعة وإعمار المناطق التي تقع شرق الاسكندرية وجنوبها.
وتألقت الإسكندرية في العصر الفاطمي حيث أصبحت قاعدة لأسطول الدولة الفاطمية، وصارت المركز التجاري الأول الذي تفد إليه السفن من المشرق والمغرب، وازدهر فيها العمران خاصة عندما أعيد حفر خليج الإسكندرية عام 404 هـ في عهد الحاكم بأمر الله، وانتعش اقتصاد المدينة نتيجة الضرائب التي فرضها الفاطميون على السفن القادمة والمغادرة للمدينة. وازدهرت صناعات أخرى بجانب صناعة السفن مثل صناعة الزجاج والخزف والمنسوجات، وأقيمت الإنشاءات العمرانية الكبيرة كالمدارس والمساجد والمستشفيات والمصانع والقصور والقلاع وانتشرت العلوم وازدهرت الحركة الثقافية بفضل انتعاش حركة التجارة والعلماء الوافدين إلى المدينة من مختلف البلدان.
وشهدت الاسكندرية في تلك الحقبة الزمنية أكبر عهود الازدهار والانتعاش على الرغم من وجود إمارة الخلافة في القاهرة، وذلك بسبب فهم الفاطميين لموقعها الفريد ولما تمثله من حماية لعاصمة الخلافة من ناحية البحر.
• نهضة علمية
مع بداية عهد الدولة الأيوبية عام 765 هـ عرف صلاح الدين الأيوبي أهمية المدينة بالنسبة لمصر فاختصها برعايته، وقد أشرف بنفسه على أعمال التحصينات وتجديد الأسوار وتعمير الأسطول. وقد تمكنت المدينة في عهده من هزيمة قوات الفرنجة التي أرسلها ملك صقلية لاحتلال المدينة عام 965 هـ، كما أقام صلاح الدين العديد من المدارس التي كانت تقوم بتدريس المذهب السني. وقد أقبل على الاسكندرية العديد من علماء المغرب والأندلس الذين تركوا أكبر الأثر على الحياة الثقافية بها ومنهم الشيخ أبو الحسن الشاذلي الذي وفد إليها عام 246 هـ لصحبة المرسي أبو العباس والشيخ أبو العزائم ماضي ومحمد القرطبي. وقد نهضت الحركة الثقافية في الاسكندرية وأصبحت ملتقى العلماء، وقد امتد هذا التنوير الثقافي ليشمل جوانب عديدة في مؤسسات الدول الأيوبية.
وازدهرت مدينة الاسكندرية في عهد دولة المماليك البحرية في عهد ثلاثة سلاطين هم: الظاهر بيبرس، والناصر محمد بن قلاوون، والأشرف شعبان، وقد حرص الثلاثة على الاهتمام بالمدينة حتى صارت واحدة أهم المراكز التجارية والثقافية في العالم الإسلامي. وقام السلاطين بتحصين الأسوار وترميم المنارة وإعادة حفر الخليج وبرزت الاسكندرية في عالم صناعة السفن وصناعة المنسوجات وآلات الحرب البحرية.
وفي عهد هؤلاء السلاطين أصبحت المدينة منارة للثقافة والدراسة وبرز العديد من العلماء منهم: أبو العباس المرسي وجابر بن اسحق الأنصاري والإمام البوصيري وأبو عبد الله الشاطبي وابن عطاء الله السكندري ومحمد دانيال الموصلي وغيرهم .. وازدهرت الصناعة في المدينة مثل صناعة المنسوجات الحريرية والمنتجات الخزفية وغيرها من الصناعات التي برع فيها السكندريون بصورة كبيرة.
واستمرت المدينة في الازدهار والانتعاش في عهد دولة المماليك؛ وخاصة في عهد الناصر فرج بن برقوق، والأشرف برسباي، والأشرف أبو النصر قايتياي حيث ساروا على نهج السلاطين السابقين في الاهتمام بالمدينة ورعايتها. وقد انعكس الرخاء الذي ساد في المدينة في ذلك الوقت على الحياة فيها فاكتظت بالأبنية الكبيرة مثل القلاع والفنادق والمدارس، وازدهرت التجارة في المدينة بسبب استقبالها لكثير من التجار من مختلف البلاد.
• عاصمة سياسية
نالت الاسكندرية في عهد محمد على قسطاً كبيراً من أسس وقواعد الدولة الحديثة التي وضعها في مصر بصفة عامة وقد بنى قصر رأس التين وقصر القباري. وكان من أهم المشروعات التي أنشأها شق ترعة المحمودية لتوفير مياه لشرب الأهالى وربط الاسكندرية بداخل البلاد وتسهيل نقل التجارة إليها بأقل التكاليف وترتب على ذلك زيادة مساحة الأراضي الزراعية إلى 54511 فداناً، وزادت حركة التجارة ونشطت السفن في نقل البضائع من الاسكندرية وإليها خصوصاً بعد تعميق الميناء وزيادة أرصفته. واهتم كذلك بدعم الأسطول البحري ثم قرر إنشاء اسطول مصري حربي يحقق طموحاته التي كان يخطط لها، ومن ثم قرر إنشاء دار لصناعة السفن المصرية هي "الترسانة" التي أنشئت على النمط الأوروبي وبجهد عمال مصريين.
وازدهرت الاسكندرية في عهد محمد على أكثر مما كانت في عهد المماليك وتميزت بالقلاع الحصينة والاستحكامات القوية وازدهر بها العمران بشكل كبير.
وفي عام 1865 تم إنشاء الخط الحديدي الذي ربط الاسكندرية بالقاهرة وتم مده إلى السويس؛ وكان الغاية منه ربط الاسكندرية بمناطق إنتاج المحاصيل وأن تكون على اتصال مباشر بالقاهرة ثم السويس، وعادت للإسكندرية مكانتها وصارت الميناء التصديري الأول لمصر حيث بلغت نسبة الصادرات المصرية من ميناء الاسكندرية 49% من جملة الصادرات المصرية في عهد الخديوي اسماعيل.
• آثار إسلامية
ولا تزال الآثار الإسلامية بالإسكندرية تتلألأ بجانب الآثار البطلمية واليونانية والرومانية، فبالقرب من منطقة المساجد والتي تضم العديد من الأضرحة لأولياء الله الصالحين الذين يمثلون مدرسة الاسكندرية في الطريقة الصوفية التي أسسها أبو الحسن الشاذلي وخلفه في طريقته العارف بالله أبو العباس المرسي. وتعتبر منطقة المساجد واحدة من أهم المزارات الدينية في المدينة إلى جانب مزاراتها الأثرية والسياحية العديدة التي ترتادها الوفود السياحة المهتمة بالآثار الإسلامية المهتمة بالفن المعماري المتميز، وجميع هذه المساجد تطل على ميدان فسيح يتوسطه مسجد المرسي أبي العباس، وهو مسجد للعارف بالله الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسين على الخزرجي الأنصاري المرسي، ولد بمدينة مرسيه سنة 616 هـ (1219) وإليها نسب؛ فلقب بالمرسي. وصل إلى الاسكندرية عام 1242 واتخذ مسكنا بمنطقة كوم الدكة، وفي عام 1245 قدم الشيخ الشاذلي على أبي العباس المرسي وأعلن خلافته له في الطريقة الشاذلية، وظل أبو العباس حاملا لواء الدعوة بعد شيخه الشاذلي قرابة الثلاثين عاماً حتى وافته المنية في الخامس والعشرين من ذي القعدة 586 هـ (1287) وقد بلغ من العمر ما يقرب من السبعين عاماً ودفن في مقبرة باب البحر.
في عام 882 هـ الموافق 1477 كان المسجد قد أهمل فأعاد بناءه الأمير قجماش الأسحاقي الظاهري أيام ولايته على الاسكندرية في عصر الملك الأشرف قايتباي وبنى لنفسه قبراً بجوار أبي العباس ودفن فيه سنة 892 هـ.
وفي عام 1005 هـ الموافق 1596 جدد بناءه الشيخ أبو العباس النسفي الخزرجي. وفي عام 1179 هـ الموافق 1775 وفد الشيخ أبو الحسن علي بن علي المغربي إلى الإسكندرية وزار ضريح أبي العباس المرسي فرأى ضيقه فجدد فيه كما جدد المقصورة والقبة ووسَّع في المسجد.
وفي عام 1280 هـ الموافق 1863 لما أصاب المسجد التهدم وصارت حالته سيئة قام أحمد بك الدخاخني شيخ طائفة البنائين بالإسكندرية بترميمه وتجديده وأوقف عليه وقفا، وأخذ نظار وقفه فيما بعد في توسعته شيئا فشيئا.
وظل المسجد كذلك حتى أمر الملك فؤاد الأول بإنشاء ميدان فسيح يطلق عليه ميدان المساجد علي أن يضم مسجداً كبيراً لأبي العباس المرسي ومسجداً للإمام البوصيري والشيخ ياقوت العرش. وقام بوضع التصميم الحالي له المهندس المعماري الإيطالي ماريو روسي وتم الانتهاء من بنائه العام 1943. فأصبح أجمل مساجد المدينة وهو يشرف بمآذنة السامقة على الميناء الشرقية بالأنفوشي.
• جامع العطارين
أما جامع العطارين فهو من أقدم مساجد الاسكندرية ويوجد بشارع سوق العطارين، وقد جدده "بدر الجمالي" وزير الخليفة المستنصر بالله الفاطمي عام 774 هـ كما هو ثابت في اللوحة التأسيسية الموجودة في قاعة المنارة على يسار الداخل من الباب الشرقي، ولما كان مسجد العطارين هو المسجد الجامع للفاطميين في الإسكندرية، فقد نقل الأيوبيون الخطبة من هذا الجامع إلى المسجد الذي أنشأه صلاح الدين الأيوبي سنة 1811جرياً على السياسة التي اتبعوها في نشر المذهب السني.
وإلى جانب الناحية الدينية فقد كان هذا الجامع مركزاً ثقافياً تولى التدريس فيه نخبة ممتازة من العلماء منهم أبو العباس المرسي، وأحمد بن أبي المعالي والعلامة ابراهيم بن محمد بن أحمد الصنهاجي المراكشي واتخذه مسكنا له إلى أن توفي سنة 717 هـ ودفن فيه وأقيمت فوق ضريحه قبة لا تزال باقية حتى اليوم، ويتكون الجامع من خمسة أروقة وبجوار المحراب منبر بسيط وفي الطرف الشمالى الشرقي قبة، وفي الجوار الغربي توجد دكة المبلغ التي تعرف في الاسكندرية برسم الصندرة.
• البوصيري وقصائده
أما مسجد الإمام البوصيري – مداح الرسول – فهو للإمام العلامة الشيخ محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج نسبة إلى صنهاجة (بلدة من بلاد البربر) بالمغرب الأقصى أحد أولياء الله الصالحين والده من بلدة بوصير ونسب إلىها واشتهر بها فسمي بالبوصيري وأمه كانت من دالاص (وبوصير ودالاص) قريتان من قرى صعيد مصر.
ولد أول شوال 608 هـ وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم وتدرج في علم الأدب والكتابة فبرز في الشعر والنثر وكان محببا مُقربا لحكام مصر، فخولوه بعض الأعمال الكتابية بمحافظة الشرقية، وقد كان في أول عهده يسلك في شعره مسالك شعراء من مدح وذم وشكوى ولكنه في كهولته تزهَّد واتصل بالامام العارف بالله أبي العباس المرسي فصفت نفسه وصلح أمره وخلص لعبادة ربه وفتح الله علىه في مدح رسول الله؛ فمدحه بقصائد تزهو على الشعراء الفحول بالابهار والصدق والجلال، طار بها حديثه وخلد بها ذكره ومنها (البردة) وهي القصيدة التي نظمها في علة إصابته فتبرأ منها بسبب تلك القصيدة وقد كانت العلة "شلل نصفي" فبرئ منها وشفاه الله بسببها وأنشدها على رسول الله في المنام فخلع عليه بردته الشريفه ومسح على جسده فعوفي لوقته فأسمى القصيدة "بردة المديح" والتي مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلم ** مزجت دمعاً جرى من مقلتي بدم
وعلى منوال هذه القصيدة نسج شوقي أمير الشعراء قصيدته المعروفة بـ "نهج البردة" التي يقول فيها:
ريم على القاع بين البان والعلم ** أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرم
ومن قصائد البوصيري "الهمزية" التي جمعت سيرة النبي مفصلة وغيرها مما هو مشهود ومعروف لدى العامة والخاصة. وتوفي رحمه الله بالإسكندرية عام 694 هـ ودفن في المقام المشهور بالبوصيري بميدان المساجد بجوار شيخه أبو العباس، ومسجد البوصيري يتكون من مربعين منفصلين، الأول: يشمل صحن المسجد ويتوسطه نافورة وتحيط به الأروقة ويضم المربع الثاني إيوان القبلة التي يتقدمه دهليز مغطى بمظلة يؤدي إلى ضريح البوصيري، والضريح عبارة عن غرفة مربعة القبة وتقوم على ستة أعمدة، والمسجد يتسع لـ500 مصل، وبه مكتبة دينية كبيرة تضم مجموعة كبيرة من الكتب الدينية والتراثية.
كما يوجد بالإسكندرية بعض المساجد الشهيرة الأخرى مثل مسجد ياقوت العرش، ومسجد سيدي بشر، ومسجد القائد ابراهيم الأول، ومسجد النبي دانيال، ومسجد أبو بكر الطرطوشي، وضريح الشاطبي، وضريح الحافظ السلفي، ومسجد سيدي عبد الرحمن بن هرمز، ومسجد القباري، ومسجد سيدي جابر، وغيرها من المساجد الكبيرة.
ميدل ايست أونلاين