تاريخ

سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [18]

ويروي صائب بتفصيل عن سعة المعارضة والرفض الإسلاميّ العارم لترشيح بشير الجميّل. وزارته وفودٌ إسلاميّة كي يتزعّم حملة الرفض الإسلامي لترئيس بشير وكان كامل الأسعد في البدء رافضاً لتعيين جلسة لانتخاب الرئيس تحت الاحتلال الإسرائيلي.

وكان النائب الرصين، نصري المعلوف، رافضاً، سرّاً، وتحدّث عن حالة خوف من بشير، حتى عند كميل شمعون الذي تعرّض لضغط هو الآخر (ص. 1078، ج2). ورفضَ ترشيحه أيضاً هنري فرعون وفؤاد لحّود وفؤاد نفاع. كم أن كل ذلك غائبٌ عن سرديّات المرحلة في أذهان الناس اليوم. لكن عبد اللطيف الزين ورفيق شاهين حاولا الخروج عن «الإجماع الإسلامي» لكن صائب تحدّث، بصراحة، عن «الوزير المرّ والملايين التي يلوّح بها للكثيرين…ابتدأتُ أشعر بأن هنالك تأرجحاً في الموقف الإسلامي» (ص. 1080، ج2). وكان عثمان الدنا من القلّة التي ناصرت بشير مبكراً فقرّعه صائب تقريعاً شديداً قائلاً (في إشارة إلى حياته الشخصيّة): «ولو كنتَ متزوجاً من هنا من عند الموارنة، فليس لك سوى أن تصيرَ مارونياً حتت تبقى حيث أنتَ». ويقول صائب عن المال: «بلغني أن ميشال المرّ وميشال إده قد زاراه (مجيد أرسلان) كما زارا عثمان الدنا وحتى كامل الأسعد» (وفي هذا اللقاء مع المرّ، غيّر كامل الأسعد موقفه بالكامل، حسب ما علمتُ آنذاك). القليل أو الكثير من المال يمكن له أن يغيّر مواقف إسلاميّة ومسيحيّة وملحدة في لبنان.

وتحدّث صائب عن حصار «الكتائب» و«القوات» القاسي لبيروت الغربيّة وعن رمي أرغفة الخبز على الحواجز و«كانوا يأخذون السندويشات من أفواه الأطفال ويرمونها على الطريق. هذا بالإضافة إلى شتائمهم للمسلمين، للنبيّ والقرآن» (ص. 1091، ج2). هذا عن الرجل الذي يقول البعض عنه اليوم إنه وحّد اللبنانيّين. والمجاهرة بعداء متعصّب ضد الإسلام من قبل الانعزاليّين غائب في سرديّة الحرب الأهليّة. هؤلاء كان ينشرون الكتب في ذم الإسلام ونبيّ الإسلام. لا، ليست الحرب كلّها عن التوطين الفلسطيني. ويبدو أن السعوديّة، كما في عام 1976، خدعت صائب وأفهمته أن الملك فهد يعارض ترشيح بشير (ص. 1110، ج2). ووجد صائب وليد جنبلاط «محطّم المعنويّات إلى أبعد الحدود» ويريد «ضمانة من السعوديّة». ويضيف صائب عن جنبلاط الذي كان أحياناً يخوّنه: «أما جنبلاط فقد أصبح مطواعاً لي، يفوِّض إليّ الأمر مطلقاً» (ص. 1125، ج2). أما نبيه برّي فكان مصرّاً أن يتواجد في الاجتماع مع «مَن يقابل بشير الجميّل» من الصف الإسلامي (بعد تنصيبه) (ص. 1116، ج2). وكان موقف سليم الحصّ ومالك سلام ورشيد كرامي الأكثر تشدّداً حسب وصف صائب. لكن ما إن يلتقي صائب ببشير حتى يصبح موقفه إيجابياً منه، متناغماً مع الإيجابيّة السعوديّة. فجأة، يكتشف صائب أن بشير «نظيف» (ص. 1126، ج2)، يغتسل بالماء والصابون.

واغتيل بشير وكالعادة تقاطر قادة الحركة الوطنيّة إلى منزل صائب يطلبون منه المشورة والنصح – من مرجع كانوا يعتبرونه قبل أشهر رجعيّاً ومتخاذلاً ويمينيّاً. الأميركيّون نقلوا إلى صائب أن الإسرائيليّين لن يدخلوا بيروت، فيما يتصل موظّف في السفارة السعوديّة بصائب ليقول له إن الإسرائيليّين غشاشون (ص. 1133، ج2). ويبادر صائب إلى ترشيح أمين لينفي عن «الكتائب أنهم الأداة في مجازر صبرا وشاتيلا»، أي إن صائب يعترف أنه أراد طمس الغطاء الإسرائيلي الكتائبي لتنصيب أمين الجميّل رئيساً ولتبرئة «الكتائب» من المجزرة الفظيعة (ص. 1142، ج3). ويعترف صائب باستسهاله لمجانبة الحقيقة إذ يقول إنه كان يعلم أن «الكتائب» ارتكبت المجزرة «ولكنني أخذتُ من أوّل دقيقة ما وجدته من مصلحة وطنيّة فنفيتُ ذلك، وكنتُ أوّل من أعلن هذا النفي…تفادياً لتفاقم الوضع بين المسلمين والمسيحيّين، وخصوصاً في الآونة الصعبة التي نمرّ بها. نعم قلتُ ذلك، مع إدراكي أن الذين قاموا بهذه العمليّة هم فريق من الكتائب بحماية من الإسرائيليّين على الأرجح» (ص. 1143، ج3).

يبدو أن النظام السعودي كان قد أكّدَ لصائب أن «الإسرائيليّين سينسحبون قريباً» من لبنان لكن «فقد أصبحت لدى السعوديّين اليوم شكوك كثيرة في مماطلة الأميركيّين» (ص. 1161، ج3). وصائب طلب من الملك فهد مبلغ مئة وخمسين مليون ليرة. وطالبت منظمة التحرير بإنشاء لجنة سعوديّة-لبنانيّة-فلسطينيّة للتحقيق في معاملة لبنان للفلسطينيّين في الفترة التي كان فيها الشعب الفلسطيني في لبنان يتعرّض لأبشع أنواع المضايقات والاعتداءات والقتل، على يد ميليشيات اليمين والجيش اللبناني الذي لم يكن أكثر من ميليشيا متناغمة مع جيش لبنان الجنوبي. صائب وافق أمين الجميّل على رفض فكرة إنشاء اللجنة وقال ذلك للحكم السعودي: «وأتمنى أن توقفوا الفلسطينيّين عن ابتزازهم…ولكن لم نلقَ منهم سوى الشتائم في ما بعد، والسير مع اليسار المتطرّف ضدنا، فلا يجوز إعطاؤهم مجالاً للزيادة في ذلك» (ص. 1161، ج3). وأيّد صائب الجميّل في أن المساعدات السعوديّة للفلسطينيّين في لبنان يجب أن تمرّ عبر سلطة أمين الجميّل. ونقل علي الشاعر إلى صائب شكوى أبو جهاد وأبو الزعيم من «كذب ونفاق» ياسر عرفات. هذه كانت قيادة الثورة الفلسطينيّة.

وحذّر صائب من بعض «الشارونيّين» اللبنانيّين «وهم في نظري إسرائيليّون أكثر من بعض الإسرائيليّين» (ص. 1163، ج3). لكن صائب وافق على مضمون اتفاقيّة 17 أيّار، مثله مثل كل طاقم المجلس النيابي المنتخب في عام 1972، باستثناء الشجاعيْن، نجاح واكيم وزاهر الخطيب.

ثم يقفز صائب إلى مفاوضات جنيف في عام 1983 فلا يمرّ على ما سبقه من أحداث وتطوّرات وأعمال عنف من سلطة الجميّل الظالمة، فيقول عن وليد جنبلاط: «جرت بيننا مشادّة قال فيها إنني أدافع عن العرب لأقبض ثمن ذلك من السعوديّة» (ص.1166، ج3). لكن جنبلاط انتحى بإيلي سالم على الشرفة وخاطبه بصراحة أنه «مستعد للذهاب إلى جنيف خلافاً لما قاله في العلن للصحف، وأنه يريد أن يكون على صلة طيّبة بالأميركيّين، وهذه ازدواجيّة معروفة عند جنبلاط». وفي موقع آخر يتحدّث عن حياة جنبلاط الشخصيّة وسلوكه الاجتماعي خلافاً لحديث ساسة لبنان عن بعضهم البعض (ص. 1197، ج3). وعن بيار الجميّل يقول: «هو هو في تحجّره الذي تعوّدنا عليه منذ أربعين سنة». ويزوره حسين الحسيني بعد غياب ويحدّثه عن زيارة طويلة له إلى الولايات المتحدة. ويقول صائب: «وقد فهمتُ أنه كان برفقة روجيه إده وهذا ما يفسِّر لي سبب تمسّكه بنظريّة حياد لبنان، لأن إده هو من أصحاب الملايين وصاحب فكرة الحياد» (ص. 1169، ج3). وحاول أمين الجميّل بعد الثورة عليه أن يتقرّب من تمام سلام، الذي أعطى أحاديث صحافيّة انتقد فيها حكم الجميّل «بخصوص تأخير رخصة الجامعة (المقاصديّة)، وعزوه ذلك إلى تعصّب طائفي لا يُحتمَل» (ص. 1173، ج3). هذا ليس معلوماً عند الكثير من اللبنانيّين اليوم: أن قادة الموارنة على مرّ سنوات تاريخ لبنان المعاصر كافحوا ضد نشر العلم بين المسلمين في لبنان.

ويكشف صائب عن الجانب الذي لم يكن مستوراً عن شفيق الوزّان: كيف أنه ماشى السياسات الإسرائيليّة لإلياس سركيس وأمين الجميّل من بعده، بعد أن كان مُجاهراً بمعاداة الكتائب والدفاع عن الخط القومي العربي و«الإسلامي» في سنوات قبل الحرب. يقول صائب: «والوزّان، مثل الرئيس، بطرَ وضربه الغرور وساقته الشهوات إلى الانغماس في الصفقات، حين باع مسؤوليّته للرئيس وأصحابه، فاستطابه الجميّل بل استطابه المسيحيّون دون وعي» (ص. 1179، ج3). وزار السفير السعودي صائب وقال عن الزيارة: «فشكوتُ له موقف السعوديّة الذي لا أسمح لنفسي بالجهر به، لما للسعوديّة من أفضال على المقاصد وإن كانت ضئيلة» (ص. 1183، ج3). يقترح عليه السفير السعودي زيارة السعودية فيقول صائب ممتعضاً: «أنا وتمّام حاولنا تكراراً زيارة السعوديّة فكنّا لا نلقى سوى ترحاب كلامي، يلازمه تسويف بعد تسويف مما لا نجرؤ على البوح به لأحد» (ص. 1193، ج3). عن سليم الحص يقول صائب: «مسكين سليم الحصّ وهو يخبط خبط عشواء ليوجد لنفسه مركزاً. فتارةً يلتفّ مع رشيد الصلح ومالك سلام ومعهما نبيه برّي وممثّل جنبلاط…مسكين الحص فهو يرخِّص نفسه دون أن يصل إلى نتيجة.. .وفي باطنه حقود وغامض» (ص. -1192-1191، ج3). وفي مكان آخر يقول صائب عن الحصّ: «الرجل أخلاقه طيّبة وعقله راجح… ولكنّه ولا شكّ باطني ومعقّد» (ص. 1271، ج3). يتخوّف صائب من نموّ حركات مدعومة من سوريا وإيران فيقول: «عشتُ عمري مستهدفاً حيناً من الشيوعيّين، وحيناً آخر من الملك حسين والأردنيّين، وحيناً من الملك سعود إلخ إلخ».

وفي سنوات تقاعده بعد عام 1984، يصل صائب إلى خلاصات عن العمل السياسي اللبناني فيقول: «الغرور هو أكبر أمراض الرجال، وهذا كان ممّا ابتلي به أمين الجميّل وشفيق الوزّان. في نظري، وحسب تجاربي، ثبت ما كان يقوله لي والدي من أن المسيحيّين ليسوا أهلاً للحكم. مرض لبنان منذ سنين بعيدة هو حزب الكتائب بصورة عامّة، وبيار الجميّل بصورة خاصّة، وهو الذي يغطّي جميع مساوئ حزبه الفاشي ويذكي الأحقاد بين المسلمين والمسيحيّين، وهو سيّد من أسياد الازدواجيّة، فلا أحد يعرف له قراراً، بحيث يكذب على الجميع، ويدّعي الصدق والقداسة» (ص. 1206، ج3). وهذه الخلاصة تتناقض، عن الكتائب وبيار الجميّل، مع موقف صائب في مطلع ومجرى الحرب حين كان يحمّل شمعون المسؤوليّة ويحافظ على صلة مع بيار الجميّل لـ«طيبة قلبه». ويجول صائب بين الساسة، على عادته، لينقذهم من الانهيارات النفسيّة، وهذا مسلك درج صائب على وصفه في الأجزاء الثلاثة، يقول عن أمين: «فوجدته في حالة انهيار، لا يدري ماذا يفعل وهو يبدو لي منذ مدّة وكأنّه ضائع لا يدري أيّ خطّ يأخذ» (ص. 1208، ج3). وفي شباط 1984، يتصل به إبراهيم قليلات، خصمه اللدود، والرجل الذي حاربه بشراسة وأرسل تهديدات له. بهذا الاتصال، اكتمل الانهيار الذريع في صف كل من كان منتمياً إلى القوى الوطنيّة والتقدميّة في لبنان. يحضر صائب لقاء لوزان في عام 1984 ويقول: «اختلف (سليمان فرنجيّة) مع بيار الجميّل وكميل شمعون إلى حد الشتائم بصراخ… حتى إنه استعمل معهم كلمات «عملاء إسرائيل» بل و»كلاب إسرائيل»» (ص. 1224، ج3). ويزوره رضوان السيّد بعد زيارة لليبيا ولقاء مع القذّافي (ص. 1225، ج3). تُصاب بالدوار وأنتَ تتابع تنقلات رضوان السيّد السياسيّة. يتلقّى صائب دعوة لزيارة ليبيا لكن صائب سئمَ من وعود لم تتحقّق عن تمويل لـ«المقاصد». يؤكّد صائب نقلاً عن توماس فريدمان، أن شارون زار بكفيّا واتفق على اتفاقيّة صلح بين لبنان وإسرائيل بعد الجفاء (من جانب بيغن) الذي صاحب آخر لقاء بين بشير الجميّل ورئيس حكومة العدوّ (ص. 1239، ج3). يزوره منح الصلح وسمير فرنجيّة ونوّاف سلام ويحكم أن الأوّل والثاني لديهما عقدة الاستيزار.

بالرغم مما شاب حديث صائب من مبالغات وافتراءات وحتى مجانبة للحقيقة في بعض الأحيان. هي باتت مرجعاً هاماً من مراجع الحرب الأهليّة

 

يشكو وليد جنبلاط (بعد إصلاح ذات البين بين الرجليْن) من ضائقة ماليّة بعد أن قطعت ليبيا عنه المساعدات. كانت لصائب زيارة موفّقة إلى السعوديّة، حسب وصفه، وأثمرت عن دعم مالي لـ«المقاصد». أمرَ الملك فهد بخمسة وعشرين مليون دولار لـ«المقاصد» وخمسة ملايين «لمصاريف أخرى». وهذه أوّل مرّة يشير فيها صائب إلى تمويل له من خارج تمويل «المقاصد» (ص. 1244، ج3). لكن صائب يخبرنا أن ديونه الخاصّة بلغت «حوالي خمسة ملايين». لا يتوقف صائب عن الإشادة بنفسه فيقول: «كلمتي في المجلس النيابي كانت في نظر البعيد والقريب رائعة» (ص. 1274، ج3). وبعد زيارة لصيدا، يقول: «ووفقني الله هناك بكلمة طويلة… وكانت شاملة… ويبدو أنها نالت إعجاباً فاق الحدود» (ص. 1284، ج3). اجتمع صائب مع فؤاد السنيورة كي يرتّب عمليّة بيع بعض الأراضي في الدوحة لرفيق الحريري للخروج من ضائقة ماليّة. ويقول عن جان عبيد إنه أتاه مرّة بوثائق مزوّرة وهدّده كي يسكت عن «فضائح والد زوجته الجنرال إميل بستاني» (ص. 1308، ج3). ويتهم علي الشاعر الذي كثيراً ما أشاد به بالوقوف وراء مؤامرة ابتزاز من قبل عبيد وخالد خضر آغا الذي يقول عنه إنه عادَ وغُرمَ به وبات يتصل فيه باستمرار (ص. 1308، ج3، عائلة خالد خضر آغا تناقض مزاعم صائب عن اتصالات يوميّة من قبل خالد خضر آغا بصائب في منفاه السويسري، وتذكر أن صائب كان هو الذي يتصل بآغا). جنبلاط يزوره ويقول في «حليفه نبيه برّي ما لم يقله مالك في الخمر، في كذبه ونفاقه وتبعيّته المطلقة لسوريا…ويبدي تخوفاً كبيراً من التيار الشيعي السام» (ص. 1319، ج3). ويقول وليد إن الشيعة بمساعدة سوريا «سيعلنون الجمهوريّة الإسلاميّة بقيادة الخميني».

التقى صائب بالأمير سلطان في جنيف وطلب منه دعم «المقاصد». تركه صائب وهو «أكثر أملاً بالحصول على الدعم السعودي لـ»المقاصد»» (ص. 1322، ج3). يلتقي بسلطان مرة أخرى ويذكره صائب بالمبالغ فيقول سلطان: «يا أخي. وما هي العشرة والعشرون وحتى الثلاثون مليون دولار مقابل دعم المقاصد ومجتمعكم في لبنان». لكن سلطان يسترسل في الحديث وينتقد أمامه «تصرّفات الملك، وخصوصاً عبدالله الذي يعتبره قليل التفكير، ومن مآخذه عليه التي يتألّم لها، أنه وهو وليّ عهد المملكة، لم يتورّع عن الذهاب إلى المطار في جنيف لاستقبال ذلك الوغد رفعت الأسد، وهو (أي سلطان) يدرك خطر العلويّين والخمينيّين كامل الإدراك، ويقدّر صدّام حسين كامل التقدير» (ص. 1325، ج3). يصارح أمين الجميّل بالقول: «سمعتك المالية مثل سمعتك السياسيّة أصبحت في الوحل القذر» (ص. 1340، ج3). كان تمام يوافي صائب في جنيف بأخبار لقاءاته فيكتب له تقريراً عن لقاء مع غازي كنعان. يقول كنعان لتمّام إن حزب الله نحو الحلّ مثله مثل القوات اللبنانيّة. أفهم كنعان قيادة الحزب أنهم «لا يتساهلون ولا يتهاونون في هذا الأمر. وقد قام هو شخصياً بتهنئة ومكافأة الضابط الذي نفّذ عمليّة ثكنة فتح الله» (ص. 1345، ج3). نقل كنعان إلى تمّام «شوق أبو جمال» إلى لقائه. زيارة أخرى من وليد جنبلاط الذي «حمل على الحريري حملة قويّة قائلاً إنه «اشترى الجميع من هنا وهناك ولا سيّما من جماعتنا»» (ص. 1370، ج3). يبتعد صائب عن الأزمة الماليّة الخانقة التي لم ينقذه منها رفيق الحريري ويسافر إلى ماربيا مع تميمة وقضى هناك نحو ثلاثة أسابيع. يقول عن الرحلة: «فندق «دون بيبي» أعجبنا جداً بمناظره وتسهيلاته… كانت الرحلة مكلفة علينا وأعتقد أن مجموع مصاريفنا بلغ ما يزيد على عشرين ألف دولار وهذا مبلغ ضخم في نظري ولكنّه في محلّه تماماً» (ص. 1439، ج3). بعد قليل، يشكو صائب من ضيق ويقول: «فأما سبب مضاعفة قلقي الليلة… فهو أنني منذ مدة غير قصيرة أعاني مع زوجتي من ضيق مالي» (ص. 1515، ج3). أما السعوديّون فهم «يصمّون آذانهم عن كل النداءات الخاصّة والحميمة التي وجّهتها لهم، فلم يمدّوا يداً، ولا حتى أجابوا بحرف على ما كتبت» (ص. 1525، ج3). ينقل عدم رضى سعودي عن رفيق الحريري وأن الأمير سلطان أبدى لعليا الصلح «احتقاره للحريري» (ص. 1530، ج3). ويخشى صائب أن ينتهي رفيق الحريري إلى «مأساة».

هناك الكثير من المعلومات والتحليلات في هذه المذكرات وهي—من دون مبالغة—أشمل وأهم مذكرات سياسيّة في تاريخ لبنان المعاصر، ليس فقط بسبب الإحاطة أو البلاغة في التعبير بل للمصارحة في الحديث، بالرغم مما شاب حديث صائب من مبالغات وافتراءات وحتى مجانبة للحقيقة في بعض الأحيان. هي باتت مرجعاً هاماً من مراجع الحرب الأهليّة. وصائب شاهد لقرن من الزمن ومُشارك في صنع السياسة في زمن كان فيه زعماء الموارنة مصرّين على احتكار الحكم. لكن صائب ظلم كثيرين كما أنه عانى من الغرور الذي كان يحذّر الزعماء منه، وطمس تاريخاً في عائلة سلام وأدواراً فيها، بما فيه أدوار عنبرة سلام في الحركة النسويّة التنويريّة أو دور محمد سلام في «المقاصد» وفي شركة طيران «الشرق الأوسط». والحب الذي كنّه صائب لزوجته من أجمل صفات هذا السياسي الذي يبدو قاسياً في أحكامه وفي مشاعره نحو الأقربين والأبعدين. سيحتاج أي سياسي لبناني يكتب مذكراته إلى مجاراة صائب سلام في بلاغة التعبير وتفصيل السرد والمصارحة عن المشاعر والوصف الدقيق الذي ينقل المشهد من الحياة إلى القارئ. لكن هذا صعب جداً في حالة سياسيّي اليوم. الكثير من مذكّرات ساسة لبنان لا تُقرأ. مذكّرات صائب سلام هي شهادة سياسي عن قرن واحد من تاريخ لبنان، وعن علاقة الزعماء المسلمين بالمسيحيّين، وعن الصراعات بين زعماء السُّنّة. وكان صائب من أكبر المؤجّجين في تلك الصراعات بين زعماء السنة. والكتاب يتضمّن كشفاً لطبيعة الدور السعودي في الحرب الأهليّة. هذا الدور—كما يرد في كتاب صائب—لا يمكن وصفه بـ«مسافة واحدة من جميع الأطراف»، كما ردّد المسؤولون السعوديّون على مرّ الأعوام. السؤال الذي يبقى: ماذا حلّ بيوميات صائب بين عامي 1970 و1973؟ عسى أن يفرج تمام عنها، إذا كان هناك من يوميّات لتلك الأعوام.

 (انتهى)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى