تاريخ

سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [2]

يصعبُ على الذي قرأ السيرتيْن ألا يقارن بين يوميّات صائب وبين السيرة الرفيعة (أدباً وخُلقاً) لشقيقة صائب، عنبرة سلام الخالدي (وبالمناسبة، صدرت أخيراً ترجمة إنكليزيّة لكتاب عنبرة—«جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين»—من قبل ابنها، المؤرّخ المعروف طريف الخالدي الذي ترجم القرآن إلى الإنكليزيّة). عنبرة في سيرتها تتنحّى تواضعاً كي تتحدّث عن غيرها ولتشيد بفضائلهم وهي لا تجد غضاضة من نقد نفسها أو القول إنها لم تكن تمتلك سرعة البديهة. عنبرة سلام لا تذكر قريباً إلا وتعرّفه للقارئ من دون أي اعتبار للصغائر والضغائن أو الحزازات.

تشعر من وصفها أنك تعرّفتَ إلى كل أولاد أبو علي سلام حقَّ معرفة، كما عرّفتنا عن أولادها حقّ معرفة. عنبرة عرّفتنا عن «شحّاذة» صغيرة أقامت صداقة معها في طفولتها (38-39). صائب سلام، على عكس عنبرة كما تظهر في مذكّراتها، بعيد عن الدفء والتعاطف في العلاقات الإنسانيّة وعن تقدير وعن فهم مواقع الغير. التلطيش والتعيير هما ديدنه والإنصاف نادر الحدوث. أشقاؤه لا يظهرون بصورة واضحة في السيرة ونرجسيّته تتحكّم برؤيته للناس. وإذا كانت عنبرة تبحث عن الخير والفضيلة في الناس، فإن رؤية صائب سلام للبشر هي رؤية قاتمة وسوداويّة لا رحمةَ فيها. صائب يبحث عن دلائل كي يثبت سقوط أو خذلان أو ضعف البشر فقط كي يبدو هو في المكان الأعلى. يعيد التذكير، مثلاً، أن رشيد كرامي كان على وشك الانهيار (النفسي والسياسي) في مفاصل مختلفة كي تعلم أن صائب صلب لا ينكسر مهما عصفت الأنواء وأنه لا يلوي مهما مرّ به من صعوبات وتحديات (يخبرني واحد من أقرب المقرّبين إلى رشيد كرامي في سنواته في الحكم أن رشيد لم يكن أبداً في طور الانهيار النفسي خلال الأحداث). يعيِّر شقيقه (عدوّه) مالك سلام بأنه كان ينقل وجهات نظر النظام السوري كي يقول إنه وحده كان حرّاً في مواقفه.

لم تمرّ إساءة (حقيقيّة أو متخيّلة) في حياة صائب سلام لم يذكرها ويسجّلها ويحمل ضغينة ضد المُسيء. كان صائب في سن الرابعة عندما طلب حليباً ليسدّ جوعه فإذا بابنة عمته الكبرى (يسمّيها بالاسم، وسيلة طبّارة، ص. 26, ج 1) تقول: «ومسخ. وهل لا يزال حتى هذه السنّ يشرب الحليب؟»، يعلّق صائب أن وسيلة لم تكن تدري كم سيكون لقولها تأثير عليه، ويضيف: «لقد بقي تأثير هذه الحادثة في ذاكرتي، إذ كنتُ أنظرُ إلى وسيلة طبّارة (يسمّيها مرّة أخرى إمعاناً في التشهير لتذكير أحفادها من بعدها؟) كلّما شاهدتها، حتى بعد ما كبرت في السنّ—نظرة النفور منها». لم يغفر لها قولها. لم تكن الحياة سهلة على الطفل صائب، وصارت أصعب عليه وهو يكبرُ. ويجيد صائب في وصف الحياة في بيروت في النصف الأوّل من القرن العشرين. يحدّثنا عن الاحتفال بـ«أربعة أيّوب» (وكنت أسمع عن الاحتفال من أمّي البيروتيّة). والمحزن أن الشقيق الوحيد الذي نالَ إطراءً من صائب هو أخوه محي الدين الذي كان مثاله الأكبر. يصفه بحنو: «كان جميل الطلعة، قويّ الشخصيّة، مفتول الساعد، محبوباً من القريب والبعيد، ومن الكبير والصغير، على السواء. أضف إلى ذلك أنه كان الأكثر اعتناءً بي من بين سائر إخوتي، بل الأكثر تدليلاً له، يأخذني بنفسه إلى المدرسة، يجلسني إلى جانبه في «الشاريت» (ص. 29، ج 1). لو أن أشقاء صائب أمعنوا في تدليله لكانوا قد نالوا ما ناله محي الدين من مديح (يقول عنه في ما بعد إنه كان «حبيبه الأوّل» بين «كل أشقائه» ويذكر الألم الذي ساوره من خلال فقدانه المبكِّر، ص. 43، ج 1).

ينقص اليوميات صورة أفضل عن سليم (أبو علي) سلام: مؤسّس السلالة السياسيّة للعائلة. ليس هناك الكثير المكتوب عن السياسي والمصلح الاجتماعي البيروتي. الدراسة الوحيدة عنه كتبها كمال صليبي في كتاب صدر بالفرنسيّة من تحرير دومينيك شوفالييه وجاك بيرك بعنوان: «العرب من خلال أرشيفهم» (صدر في عام 1976). واعتمد كمال الصليبي (صديق عائلتَيْ سلام والخالدي) على يوميّات كتبها في 55 صفحة أبو علي سلام، وهي غطّت بصورة موجزة عشر سنوات من حياته فقط (ونشرها في ما بعد المؤرّخ حسان الحلاق بعنوان «مذكّرات سليم علي سلام» وهي تتضمّن نبذة عنه). وكان يوسف إبراهيم يزبك قد أعدّ سيرة غير منشورة عنه أيضاً. الصورة التي يرسمها صائب لأبيه غير مكتملة وتحتاج إلى ربط بنبذة الحلاق عنه. لكن سليم سلام كان شخصيّة تختلف عن صائب: يميل إلى التعاون مع العائلات البيروتيّة بعكس صائب الذي سعى للاستئثار بالتمثيل السياسي. سليم كان يعمل في «المقاصد» (مثله ابنه محمد) مؤسّساتياً فيما حوّل صائب «المقاصد» إلى نادي للمحسوبيّات والزبائنيّة والحرتقات. لكن ما تعرّض له أبوه من مضايقات من السلطة العثمانيّة أثّر على صائب وقطع عليه حبل الغرام في صباه إذ يقول: «وهنا طرأ تغيير في حياتي سأدوّنه لاحقاً: لقد تحوّلت عاطفتي من مشاعر الغرام إلى مشاعر الانتقام. فقررت، وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري إلا قليلاً، أن أقتل “جمال باشا” إذا هو مسَّ والدي بسوء» (ص. 46). لكن أبو علي سلام زاوج بين العثمانيّة والعروبة ولم يرتبط بالسفارات الغربيّة، ما أنقذه من موت محتّم (لم يلتقِ أبو علي سلام من بين أعضاء المؤتمر العربي الأوّل في عام 1913 سراً بمسؤولين فرنسيّين، خلافاً لأعضاء آخرين في الوفد—راجع الفصل الثاني من نبذة حسان الحلاق). ويروي أبو علي في يوميّاته كيف أن عبد الكريم الخليل (من شهداء ساحة الشهداء) فاتح أبو علي سلام في أمر إشعال ثورة عسكريّة بالاتفاق مع البريطانيّين (الذين وعدوا الخليل بالمال والسلاح، لكن سلام رفض الفكرة وقال للخليل: «يا عبد الكريم. أنصحك أن لا تتورّط بهكذا مسائل، وأما من جهتي فلا أوافق على هكذا أعمال مطلقاً». المفارقة التاريخيّة أن الرجل الذي كان يريد الانتفاض بالتحالف مع الاستعمار البريطاني يتذكّره لبنان ومنهاجه الدراسي بطلاً تاريخيّاً وشهيداً فيما لا يذكر الرجل الذي رفض الارتباط بالانتفاض الغربي المنشأ. وكان اعتراض أو موقف أبو علي سلام من أتباع بريطانيا نفس اعتراض شكيب أرسلان على عروبيّي زمانه (الغربيّي الهوى).

ومواقف بعض المثقّفين والساسة العرب في المزاوجة بين العروبة وبين العثمانيّة (مثل موقف سلام وأرسلان) لم تعد معروفة لأن سرديّة خياليّة تشكّلت (من قبل الكنيسة بصورة خاصّة ومن قبل عروبيّي سفارات الغرب في حينه) عن مقاومات عربيّة ضد الاستعمار العثماني. وقبول أبو علي سلام بعضويّة «مجلس المبعوثان» في عام 1914 دليل على أنه افترق عن بعض «الإصلاحيّين» الذين طالبوا بمقاطعة مناصب الدولة العثمانيّة.

وتفضح يوميّات أبو علي سلام دور كامل الأسعد (الجدّ) في إعدام عبد الكريم الخليل، إذ هو الذي أبلغ جمال باشا بمؤامرة عبد الكريم الخليل ورضا الصلح (من «مذكرات سليم علي سلام»، نسختي الإكترونيّة لا تسمح بإيراد رقم الصفحة). يختصر كمال الصليبي شخصيّة أبو علي سلام بالحديث عن انفتاحه الاجتماعي والتعليمي. فهو أسّس أوّل جمعيّة مسيحيّة-إسلاميّة (مع مختار بيهم) «الحركة الإصلاحيّة» (يقول حسان الحلاق إن بعض أعضاء الحركة من المسيحيّين أجروا اتصالات سرّية مع فرنسا). ويقول الصليبي إن أبو علي، عندما تسلّم رئاسة «المقاصد»، أعاد تنظيم مدارسها وأسّس مدرسة للصبيان في زقاق البلاط وعيّن درزيّاً مديراً لها، فيما أسّس مدرسة للبنات في حوض الولاية وعيّن جوليا طعمة البروتستانتية مديرة لها (لكن أبو علي اضطرّ للاستقالة من رئاسة «المقاصد» عندما وقع عضو في مجلس المقاصد، بدر دمشقيّة، في غرام جوليا طعمه وطلّق زوجته ليتزوّجها. راجع الصليبي «بيروت تحت حكم الشباب الأتراك: كما تظهر في مذكّرات سليم علي سلام»، في كتاب «العرب من خلال أرشيفهم»، ص. 202). وكان أبو علي منفتحاً اجتماعيّاً وتحرّر وتمرّد عنبرة سلام لم يكونا ليحدثا من دون دعمه، كما أنه تمرّد على مخاوف المسلمين من الدراسة في مدارس مسيحيّة وأرسل أولاده إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت ومدرستها الإعداديّة (وكان ذلك في زمن الحذر الإسلامي المبرّر من أجندة التنصير عند المدارس الإرساليّة). واستدعى كاثوليكيّاً لتدريس الفرنسية لأولاده، وأوكل إلى عبد البستاني تدريس أصول العربيّة لعنبرة سلام. كما أن أبو علي أرسل ابنه البكر، علي، للدراسة في بريطانيا.

ويعترف صائب كما تعترف شقيقته عنبرة أن أبو علي سلام مرّ في حياته في ضائقة ماليّة (أسعفه في ما أسعفه أثناء وجوده مع ابنه محمد في لندن التاجر اللبناني الأصل، فضلو حوراني، والد ألبرت وسيسيل حوراني). يقول أبو علي أثناء ضائقة ماليّة: «أريدُ الانتحار، أريدُ الانتحار… لكن ولأنني مسلم مؤمن فإن الانتحار يُعتبر جريمة ولا يقدم عليها مؤمن، ثم لأنها علامة جبن». ويقول صائب إنه أمضى سنتين في الجامعة الأميركيّة في بيروت ثم تركها بسبب ضيق ذات اليد وعدم قدرة والده على تسديد القسط الدراسي (ص. 48، ج 1). وهذا التقلّب في الدخل والمستوى المعيشي لم يكن نادراً في أوساط العائلات البيروتيّة الثريّة التي تأثّر الكثير منها بتدهور البورصة سنة الانهيار الكبير. ويتحدّث سلام عن التنشئة وعن التعليم مُفضّلاً مناداة الطالب للمعلّم بلقب معلّم لا لقب أستاذ. ويذكر سلام أن والديه لم يكونا من أنصار إفساد الأولاد من خلال الامتيازات الماديّة والمعيشيّة. وحديث سلام عن الجامعة الأميركيّة يخلو من التبجيل المطلق الذي نعتاده من أحاديث خرّيجين من الجامعة مثل غسان تويني وفؤاد السنيورة وخصوصاً وليد جنبلاط الذي يجعل من الجامعة الأميركيّة مدرسة في القوميّة العربيّة. يعترف سلام، مثلاً، أن فيليب حتّي كان يكنّ تعصّباً «ضد كل ما هو إسلامي» (ص. 53). وهذا الجانب من التعصّب الديني الذي شاب تلك السنوات من الجامعة الأميركيّة خفيّ تماماً من السرديّة السائدة. الجامعة الأميركيّة تبرع في العلاقات العامّة أكثر مما تبرع في البحث العلمي في الكثير من الأحيان. لكن فيليب حتّي تغيّر في سنوات إقامته في أميركا ولم يبدر عنه تعصّب ضد الإسلام والمسلمين كما في سنواته الأولى في التعليم في الجامعة الأميركيّة في بيروت.

ويلجأ صائب في يوميّاته إلى أسلوب غير راق في الخصام السياسي أو حتى الاختلاف في الرأي، إذ لا يجد غضاضة من بثّ إشاعات ونميمة ضد الخصم، فقط لتسجيل نقاط ضدّه. يتحدّث مثلاً عن الشيخ كامل القصّاب، وهو من زعماء الحركة الوطنيّة السوريّة ومن الذين عارضوا مخطّطات البريطانيّين والفرنسيّين في بلادنا وعارض اتفاق «فيصل-كليمنصو» رافعاً شعار «إمّا الاستقلال التام أو الموت الزؤام» (ولا يذكر صائب أن القصّاب شارك في الجهاد مع عزّ الدين القسّام). عن القصّاب يكتب صائب في حاشية: «وقد قيلَ لي بعد حوالي 30 عاماً إن ثمّة وثائق سرّية تثبت أن الشيخ “القصّاب” كان من المحرّضين، وعميلاً للـ”جنرال غورو”، المندوب السامي في بيروت، والله أعلم» (ص. 71). لكن صائب لا يذكر أي مصدر للفرية وليس هناك دليل في المراجع التاريخيّة، حتى تلك التي اعتمدت على الأرشيف الفرنسي، على نميمة صائب. على العكس من ذلك، فإن المؤرّخة إليزابيث تومسون، تذكره كمناضل ضد الفرنسيّين وهو الذي حرّض الطبقة العاملة في دمشق ضد الإنذار الفرنسي لفيصل في تمّوز 1920. وبتقدّم القوّات الفرنسيّة نحو دمشق، قام فيصل باعتقال القصّاب وقبلَ الإنذار الفرنسي (راجع إليزابيث تومبسون، «العيد المئة للشقاق الإسلامي-الليبرالي في العالم العربي»، مؤسّسة سنشري، تموز 2019، ص. 7).

ونجد في يوميّات صائب اعترافات بصراع قوي بين الرغبة الجنسيّة وبين الحرص على «العذريّة والعفّة». وهذه الإشارات تذكّر بطهرانيّة وزهد ميخائيل نعيمة في مذكّراته «سبعون». يتحدّث في هذا القسم عن علاقة حب عميقة دامت اثنتي عشرة سنة، وهو—خلافاً لما يجب على الفتى أن يفعله من ناحية عدم تسمية الحبيبة خصوصاً في مجتمع محافظ مثل بلادنا—يسمّي حبيبته لا بل هو يسلسل عائلتها. لكنّ سلام يُطمئن نفسه بأن العلاقة بالرغم من عمقها وحميميّتها فإنها بقيت «عذريّة على الدوام» بالرغم من إغراءات مرَّ بها صائب أثناء إقامته في لندن (ص. 75). وكادت العلاقة أن تُختتم بالزواج بالرغم من أن الفتاة كانت مسيحيّة (شقيقة زوجة سليمان فرنجيّة الجدّ)، ما يعطي فكرة عن الانفتاح الديني والطائفي لعائلة أبو علي سلام حتى في تلك الحقبة. ولم تحسن فتيات العائلة الحديث بالعربيّة وكانت لعربيّتهن لكنة أجنبيّة لكن هذا «أثار إعجاب المصطافين» «وأثار مشاعر» صائب، الذي قدّر اللغة العربيّة أحسن تقدير. وهذا الجانب من عشق صائب هو جانب جميل في اليوميّات لأن صائب يبدو فيه أقلّ خشونة من شخصيّته السياسيّة. يتحدّث عن شعوره عندما وصفته المحبوبة بالجميل وكيف أنه كان يرفع بين يديه أفراد العائلة معتدّاً بقوّته الرياضيّة (يقول صائب إنه أوّل من أدخل قفّازات الملاكمة إلى بيروت، وكان أوصى بها شقيقه محمد عندما كان في لندن، لكن هذه المعلومات تحتاج—كما غيرها—إلى التحقيق والتدقيق، وهو ينسبها إلى المعلّق الرياضي ناصيف مجدلاني، ص. 53).

ويقول صائب عن فترة إقامته في لندن إنه مرّ بتجارب كثيرة—وهو «في عنفوان الشباب» على حد تعبيره—لكنه لم يقع «في التجربة». تكاد الجملة تتنافر لكنه يوضّح أنه عرف فتيات كثيرات وراقصهنّ ليلاً لكنه «لم يشعر بأي خلجة جنسيّة نحو إحداهن» (ص. 79) بسبب إخلاصه لمحبوبته. لكن صائب يصف تلك التجارب في لندن بـ«مغامرات عطرة». وحتى عندما أمطرته (أو «انهالت» عليه حسب تعبيره) فتاة إنكليزيّة بالقبلات، لم يبادلها إلا بقبلة «بريئة» كي لا يفشّلها. لكن حب صائب لم يصل إلى الزواج بسبب معارضة أهل المحبوبة، لا معارضة والدي صائب. لكن شقيقة صائب، عنبرة، وشقيقة (زوجة شقيقه علي) أقنعتاه بأن الزواج ليس في صالح محبوبته بسبب التقاليد المحافظة والمتزمّتة آنذاك.

ويتحدّث صائب عن فترة الانتداب الفرنسي وتدخل سلطات الاحتلال في كل شؤون السياسة في البلد. واستعادة ملامح تلك الفترة من الضروريّات، لأن هناك هالة من القداسة باتت تحيط بفترة الاحتلال الفرنسي. وانفجار المرفأ زاد من صدوح الأصوات التي تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي—كأن الاحتلالات الغربيّة هي مجرّد تلبية لرغبات السكّان المحليّين وليست تنفيذاً لإرادات استعماريّة لخدمة مصالح سياسية واقتصاديّة. يتحدّث صائب عن تدخّل السلطات الفرنسية في الانتخابات في عام 1936 لإسقاط من يزعج فرنسا وإنجاح من يفيدها. لقد غابت تلك الحقائق عن المرحلة الفرنسيّة لأن الثقافة السائدة باتت تستعيد (عبر محطات الخليج الترفيهيّة وعبر صفحات الرأي في إعلام الخليج) المراحل الاستعماريّة الغربيّة وتصويرها على أنها كانت المرحلة الذهبيّة في تاريخنا المعاصر. ويتحدّث صائب عن دعم الفرنسيّين لخير الدين الأحدب، الذي عُيِّن من قبل الفرنسيّين رئيساً للوزراء. ويبدو أن صائب تدرّب على العمل الانتخابي (الذي أتقنه) في تلك الفترة لدعم رياض الصلح وعمر بيهم (مع أن صائب سرعان ما يخيّب أمله في الصلح ويهجوه كما يهجو غيره، من الأقربين والأبعدين). وخير الدين الأحدب، زلمة الفرنسيّين، يرد اسمه في وثائق إسرائيليّة وأميركيّة بين الذين كانوا على علاقة وديّة مع الصهاينة، ما يحتّم إعادة النظر في مفهوم ربط زعماء المسيحيّين حصراً بالاستعمار والصهيونيّة. زعماء المسلمين لم يقلّوا إذعاناً وهناك وثائق أميركيّة جديدة تؤكّد ذلك عن سنوات الحرب الأهليّة. يتحدّث صائب عن تزوير ومضايقات قام بها الفرنسيّون ضد خصومهم ومنعوا معارضيهم من الدخول إلى مراكز الاقتراع (ص. 120). وحشا الفرنسيّون صناديق الاستعمار. هذا هو زمن الاستعمار الفرنسي الذي يحنّ البعض في لبنان إليه.

(يتبع)

ملاحظة: ورد خطأ في العدد الماضي عن مالك سلام. مالك كان متزوّجاً بشقيقة رشيد كرامي، فيما مات رشيد كرامي عازباً، كما هو معروف.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى