«سيرة عنترة بن شداد» ملحمةٌ نسجَها المخيالُ الشعبي

 

تواصل الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة جهودها في نشر تراث العرب في عصورهم الأولى، عبر إصدارات متميزة، مثل “تاريخ بخارى”، و”المفضليات“، وهي مجموعة من قصائد العرب في الجاهلية وبداية الإسلام، انتقاها أبو العباس الضبي (ت78هـ) بتحقيق أحمد شاكر وعبدالسلام هارون.

 وأخيراً تضمنت تلك الإصدارات “سيرة عنترة بن شداد” برواية: عبدالملك بن قريب الشهير بالأصمعي، في 8 مجلدات ضمن سلسلة “الدراسات الشعبية”. ولا شك، أن هذه الخطوة مرجعها أن التاريخ العربي لم يجد مثيلاً لعنترة، فهو وحيد عصره ومضرب الأمثال لدى العرب، إذ تشكَّلت صورته البطولية من خلال خصاله وقوته وشجاعته الفريدة وازدادت شعبيته لدى الناس إعجاباً به وبشعره وتضامناً معه لما عاناه من تمييز وتهميش بسبب لون بشرته، إضافة إلى قصته مع عبلة ومعاناته في حبها وحرمانه منها.

وتعدّ سيرة عنترة بن شداد من أكبر الملاحم القصصية التي نسجها المخيال الشعبي وغذّاها الخيال الروائي حتى غدت أسطورة عربية متكاملة البناء شبيهة إلى حدّ كبير بالأساطير الإغريقية. اختلفت في رواياتها التفاصيل والأحداث ولكنها اتفقت في نسج ملامح البطل الأسطوري، البطل الوجودي الذي يحارب الأقدار ويصارع الأخطار من أجل نحت ذاته وفرضها وسط ظروف قدرية تعاكسه.

فقد كان عنترة فارس العرب وشاعرها وفخرها ورمز الشجاعة والقوة والبسالة وعنوان الفروسية، وهو حامي القبيلة وحارسها، ولا يزال كذلك في مخيال العرب يشبّه به كلّ من ارتقى درجة من القوة والبسالة وطمح إلى نيل لقب بطل الفرسان. ومن المعروف أن قصة عنترة تبدأ بذكر بعض أيام العرب في عصورهم السحيقة قبل الإسلام. وهي سيرة من أهم السير الشعبية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وذلك، لأنها الأقدم في رصدها للتاريخ، فضلاً عن كونها أول الأعمال السردية الشعبية التي يرتبط بها مصطلح “سيرة”.

وكما يشير ناشر الطبعة التي بين أيدينا، فإن السيرة مشتقة من الفعل سار أي سلك والإشارة هنا تأخذنا إلى البناء الذي يقوم على السيري الذي يحمل السير وصفاً لرحلة حياة للبطل الشعبي الذي تتبناه جماعته فينوب عنها حاملاً منظومة قيمها وعاداتها وتقاليدها كما سنرى في السيرة التي نحن بصددها. وحين نتواصل مع عنترة قراءة، سنجد عنصر النبوءة الذي يتعالق بكل أبطال السير. فالكاهن “سطيح” هو المدرك لمستقبل البطل والعارف بخطواته من خلال الأحلام بتفسيرها.

ويتجلى الكاهن بوصفه كائناً عجائبياً، ورغم كونه بلا قدمين ولا يدين ولا عروق ولا عظام ولا عينين، إلا إنه يمتلك القدرة على فك طلاسم الأحلام وإخبار البطل بما فيها. وكان ينتقل من مكان إلى مكان عبر طيه كالثوب. هكذا يتجلى البعد الأسطوري ممثلاً في الكاهن مالك المعرفة ومن الميلاد والنبوءة إلى تطور البطل وسيرته وتعلمه واختباراته ومنازلته لأعدائه وتعرف جماعته عليه وشهرته تتكاثر السيرة وتتغاصن وتتفرع لتصبح بدناً كبيراً حافلاً بالأحداث والشخصيات والأماكن. فرغم تغيّر ظروف العصر، ظلّت سيرة عنترة أسطورة يفوح عبقها بروائح الشهامة والشجاعة يتغنى بها العرب تذكيراً بماضيهم المجيد، ماضي القوة والانتصار.

فكان عنترة ابن العرب وليس ابن شداد العبسي، وهو سيفُهم المسلول أبداً خصوصاً أن سيرته لم تقتصر على الأدب والتاريخ، بل كانت من قصص التراث الشعبي يحكيها الناس ويتفاخرون بها، ومن منهم لا يريد أن يكون عنترة؟ وهناك من اختص في رواية سيرة عنترة وهم الحكواتية ويسمّون “العناترة” في مصر، وقد عُرفوا برواياتهم لسيرة عنترة والظاهر بيبرس وسيف بن يزن. وفي رواياتهم تجد الكثير من المبالغة والتفخيم والتعظيم في شأن المحاربين الأبطال وسيرهم تمتدح الفتوّة وتحفز الشعور البدوي لدى المستمعين وتبعث فيهم الشعور بالنخوة والافتخار بالانتماء إلى أمة يحفل تاريخها بالبطولات.

فتلعب رواية السيرة الشعبية هنا دور المعلم التراثي الذي يخلّد عظمة أصحابه ويربط الحاضر بالماضي ويظلّ شاهداً على مجد السابقين. وهو ما تصوّره السيرة الشعبية لعنترة بطلاً خرافياً وفارساً ملحمياً، لذلك تشكل شخصيته ظاهرة شعرية وأسطورية في التاريخ الأدبي وتجربة عربية فريدة من نوعها. وهي ليست تجربة فردية بل تجربة جماعية تلخّصت في فرد مثل قيم الانتماء والتجذّر، الانتماء الجمعي الذي يتوحد مع القبيلة والانتماء الفردي المرتبط بالذات، فامتزجت الشخصية التاريخية بصوت الشاعر الممتلئ بصوت الجماعة التي يعبر عنها في شعره وفي حياته في مزيج بين الواقعي والخرافي.

ولا يزال ذلك الصوت الفردي الجماعي حاضراً في مخيلة العرب يتردد صداه في استحضار الذكرى والماضي الذي يؤصّل الجذور والانتماء مهما حاولت رياح العصر الانقطاع عن هذه الأصول. ولا يزال ما تبقّى من رواة السير الشعبية والحكواتية، يتداولون سيرة عنترة وكأنها حدثت بالأمس القريب. ويذكر أن سيرة عنترة التي تقدمها هيئة قصور الثقافة المصرية تقع في أربعة آلاف صفحة، ربما في محاولة لاستعادة ذاكرة الحكي وموسيقاه، والغوص في ذاكرة البطولة التي تتجاوز لون البطل وانتماءاته، فضلاً عن حكمة الالتحام بمنظومة الجماعة اتساقاً مع قيمتها، منتصراً بالشعر وبالجمال، حين يكون قرين القوة والشجاعة في مواجهة كل باطل وقبيح.

 

 

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى