
في مجموعته الشعرية ((سيرة موت غريب )) يعلن الشاعر نضال بغدادي في كل كلمة وفي كل شطر ولفظة انه ينتمي إلى ذلك العالم المعذب المتألم الذي يبحث عن السعادة فلا يجدها ….يخبرنا فيها في كل عنوان ومقطع من هذه المجموعة التي تتألف من ست وعشرين قصيدة، بعضها ومضات، بأنه لم يعد ثمة ما يستحق الحياة …حيث يعيش نضال بغدادي الأزمة السورية لحظة بلحظة ويكتبها أيضا ويسجلها في ذاكرته وعلى دفاتره وفي قصائده متجاوزاً أوزان الشعر بعد أن اختلت موازين الحياة. إلا انه يتمسك بموسيقا داخلية تضبط الإيقاع دائماً، فتقرأ القصيدة وتمعن في معانيها ونغمتها الداخلية المتجانسة والمتسقة وتتمنى لوكانت هذه المعاني شعراً عمودياً ليكون الاستمتاع بها كاملاً لان الشعر ديوان العرب.
إلا أن قصائد نضال بعمقها الإنساني تقدم رؤية من زاوية مختلفة لاتخطر على بال أحد غير الشاعر بغدادي وكأنه يعيش متوحدا يراقب الحرب والناس من بعيد دون ان يناقش فيها أحد .. وكأن الصمت يسيطر دائماَ على نضال إلا عندما يقرر كتابة الشعر….. لأنه بصمته الدفين وتوحده يحكي لنا كامل الحكاية المخيفة والقاسية.. …
تعكس عناوين المجموعة الشعرية ( سيرة موت غريب ) حالة اليأس والخوف والألم والوحدة التي يعاني منها الناس وهم يشعرون بالموت يدنو منهم ولا أمل بالحياة. وفيما كنا نعتقد ان الشعر يبعث الحياة من جديد -على الورق على الأقل – إلا أن الشعر عند نضال بغدادي هو التعبير المضني عن الألم والهم العام والخوف…وهو بذلك يخفف عنا المأساة وهو يضعها امامنا بكلماته المؤلمة .. وحتى العناوين تحمل تلك المعاني . فجميعها تخبرنا بهذا الحال، فالشاعر متوحد مع ذاته همه كبير وجزعه لاحدود له وهو يستخدم في كل شطر وفي كل ومضة مفرادات و لغة رقيقة وقاسية في آن معاً، ومألوفة ومستخدمة على نطاق واسع وبخاصة خلال الحرب، ألفاظ يستخدمها عامة الناس في حياتهم وكأنه لايراهن إلا على هؤلاء الناس لإنقاذ الوطن ….
عناوين مجموعته مختلفة نذكر منها ( محاولة – كن خفيفا – الطريق –عابر سبيل – انتظار – حصار – عبور – موت غير لائق – هذا الدم فاضح) ومن خلال هذه اللوحات الشعرية يرسم نضال بغدادي روحه وحلمه ومعاناته عبر صور مؤلمة حول الحرب وأهوالها فيقول في (حصار ): … إن فتحت …فالقاتل ينتظرك …خلف الباب
ويقول في انتظار: … تمضي أيامنا كما يمضي
الهواء الثقيل فوق رائحة ……
ربما تحتاج الى بعض الوقت لتدرك وتفهم اللغة التي يكتب بها نضال بغدادي وهو يمزج بين القصيدة النثرية والشعر فينقل الإحساس واللحظة إليك نقلاً مباشراً فتحيا معه وكأنك ترافقه في غرفته من خلال تراكم الصور الدامية التي يقدمها لك كما في قصيدته ..- الطريق – المؤرخة في كانون الأول عام 2013 في القاهرة:
…ستقطع الطريق وحدك ……….فاجعل من نبضك ما يؤنس دربك
اما في فصل شهوات، في الجزء الثاني من المجموعة الشعرية الواقعة في مئة صفحة من القطع المتوسط ، فإن نضال يتابع بطريقة أكثر إثارة ويأساً تصوير الواقع متعمقاً في النفس البشرية وفي اللواعج الداخلية التي يعيشها السوريون وهم يتمنون الموت على الحياة الضنكة التي وجدوا أنفسهم في أتونها ، فثمة شهوة البكاء، وشهوة الغائب، وشهوة النائم ، وشهوة القتيل، وشهوة الخائف… وكلها عناوين تعبر عن حال الحرب يستخدم في كل قصائده مصطلحات وألفاظ من واقع الحرب تعكس فلسفته في الحياة وطبيعة تفكيره الخاصة وآلامه الدفينة ، فالقتيل ليس له سوى شهوتين :
…. أن يجد مدفنا امنأ …وأن لايموت مرتين
اما شهوة البكاء فيقول فيها :
لم يعد الدمع دمعاً
صاراقسى جلداً
مذ صار دماً .
اما شهوة الخائف ففيها يقول بغدادي بلغة فلسفية ان الخوف ليسم ن الموت وانما من الخوف نفسه ….:
كل ما اشتهاه
وكل ما يشتهيه
ان يعرف كم تبقى لموته
اما درة قصائد نضال بغدادي في مجموعته الشعرية الجديدة التي صدرت عن دار توتول للطباعة والنشر في خريف العام 2024 فكانت بعنوان ( ما يكفي من الشوق ) وفيها أيضا يظهر نظرته الفلسفية العميقة للحياة والموت ويعتبر أن الذاكرة هي التي تبعث الشوق فعندما نتذكر الأيام التي مررنا بها مع الحبيب فإننا نشتاق اليه لإعادة سيرتنا وأيامنا التي نعلم
علم اليقين انها لن تعود ….
يقول نضال:
خذ ما
يكفي من الشوق ……….
حين يرسل البعيد حنينا يضني قلبك
أما قصيدته جامع الصفات فانها مجرد نداء ومناشدة للضمائر الحية وفيها يتبنى التوحد والانفراد والوحدة وينشد السلام ويعيد الأمل :
الآن أكملت فيكم جنازتي
فانا القاتل والقتيل
وانا الحي والميت
ساعيد ترتيب الصفات
ليتجلى من مات
…………..
ويبتكروا معجزة الحياة
…………
ويعيدواالعطر لورد الخزامى
تستطيع من خلال هذه القصائد والومضات ان تتعرف على مواطن دمشقي نبيل وصادق و شاعر إنساني متألم ومسالم ومتوحد لايشاركه أحد العزاء ولا يوجد له عزاء أصلا وكأن نضال اليوم هو كل سوري يعيش على هذه الأرض ..وهو يمتطي صهوة الكتابة والبحث والترجمة وقد نال جائزة ابن زيدون الشعرية عن المعهد الاسباني العربي للثقافة في مدريد عام 1983 عن مجموعته الشعرية ( ما حدث البارحة …ما سيحدث في الغد ) وكأنه يقول الحدث الذي لم يحدث في الماضي لايحدث في المستقبل ..
لنضال بغدادي ست مجموعات شعرية هي: ما حدث البارحة..ما سيحدث في الغد ــ مرايا – لروح ملاك مهجور – تقاسيم حنين شرقي – أصعد السلم وحدي بالإضافة إلى مجموعته الأحدث : سيرة موت غريب.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة