سينما عصر مبارك توقظ الوعي وتواجه توحش الفساد
شهد الفيلم المصري في السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا عن معالجة القضايا الوطنية والمجتمعية، حيث يلاحظ المتابع خلو المشهد من أفلام يمكن أن تمثل مرآة صادقة أو نقدا ورصدا للتغيير الذي جرى ولا ينفك يجري في واقع المجتمع، على الرغم من أنه على مدار تاريخ السينما المصرية لعب دورا تنويريا كاشفا وراصدا لعلل الواقع السياسي والمجتمعي، وواجه مظاهر الفساد والتواطؤ في دوائر الحكم وصنع القرار، وأيقظ الوعي الجماهيري وفتح العيون على السلبيات، لكن السنوات الأخيرة لأسباب كثيرة ربما في مقدمتها الرقابة السياسية الحاكمة لكل شيء يضيء فساد ما يجري، وضعف التمويل الذي أصبح مشروطا وفي قبضة تجار لا هم لهم إلا الربح، كان تراجعه حادا وملفتا.
الناقد السينمائي وليد رشاد يؤكد في كتابه “السينما والثورة” أن السينما المصرية وجهت نقدا لاذعا للسلبيات السياسية والمجتمعية تارة بالتلميح وتارة بالتصريح والتجريح أحيانا، ومما لا شك فيه أن الرسالة التنويرية التي حملها فنانو السينما الجادون والمجيدون قد أسهمت في تربية الوعي داخل عقل المشاهد المصري والعربي. وكثيرا ما رصدت عدسات الكاميرات العربية مظاهر الفساد والتواطؤ والعفن الذي سيطر على دوائر الحكم في بلادنا، وراحت تفضح تآمر حكام ظنوا أنفسهم مخلدين على شعوبهم المقهورة، واستحقت السينما المصرية عندما صنعت أفلاما توقظ الوعي لدى الجماهير وتفتح أعينهم على حقيقة ما يجري أن تكون النواة واللبنة الأولى لثورات الربيع العربي ويمكن أن نعتبرها وقود الثورة.
قدم رشاد في كتابه لأعمال تتعرض لفترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، والذي آلت إليه السلطة بعد حادث المنصة الشهير، وبالتدريج بدأ في التسلط والتوحش حتى ابتلع مستقبل كل المصريين، وقد تعاملت السينما العريقة في مصر مع هذا التوحش منذ البداية بالتلميح حتى وصلت إلى التصريح بالنهاية.
وأكد أن السينما عندما تعاملت مع الواقع في بداية عصر مبارك كانت تتناوله بشكل هادئ وحذر، ولكنها قامت برصد نقاط تحول في العقلية الحاكمة، مثال فيلم “سواق الأتوبيس” حيث إشارة حذرة لاصرار النظام على إهمال من خاضوا حرب أكتوبر، فنرى البطل والذي عانى كل الإهمال وتوالت عليه المشكلات وهو الذي كان أحد أولئك المحاربين القدامى والذي بات لا يقوى على المواجهة بعدما كان يواجه الأعداء بكل شجاعة دفاعا عن الوطن، ولكن الواقع المر جعل منه شخصا سلبيا. وتحت الضغوط والالتزامات الأسرية يضطر للعمل منذ مطلع الفجر وحتى ساعات متأخرة من الليل ليستطيع فقط تدبير احتياجات أسرته، وأصبح بسلبيته تلك لامباليا عاجزا لا يقوى حتى على حماية ركاب الأتوبيس الذي يقوده بمنطق “الأنامالية” والذي تفشى في تلك الفترة. فنسمع في حوار الفيلم كلمات “يا عم وانا مالي” أو “أنا راجل صاحب عيال” وغيرها من الكلمات التي يتعلل بها البعض عندما يكون عليهم واجب التصدي للمخاطر.
وأضاف رشاد أن “الرؤية الدرامية للفيلم تواجه هذه السلبية التي فرضتها ظروف ستجعل البطل يتغير ويعود من جديد ليحارب كما حارب في أكتوبر، وهي معركة أكثر ضراوة حيث أعداء الداخل دائما ما يكونون أخطر من أعداء الخارج، وهذا ما لاحظناه كلنا في الفترة الأخيرة ما بعد ثورة يناير وسط الجدل المحتدم حول ما بات يعرف بالطرف الثالث في مصر، أليس هذا هو الطرف الثاث؟
على أية حال، فالفيلم جعل الشخصية الرئيسية “سواق الأتوبيس” يعود للقتال في مشهد غاية في القوة عندما استشعر الخطر الذي يحدق بكل المكتسبات التي تحققت عبر نصر أكتوبر الذي شارك فيه. في مشهد النهاية يتخلى البطل عن سلبيته التي رأيناها في المشاهد الأولى ويطارد لصا من الأتوبيس إلى الشارع ويقوم بضربه ليتمكن من السيطرة عليه، وهو يصيح في وجهه بالجملة الشهيرة في الفيلم “يا ولاد الكلب” والتي اعتمد عليها المؤلف ليوضح حجم معاناة مصر من أولئك الفاسدين”.
وأشار رشاد إلى أنه في مرحلة لاحقة وفي التسعينيات وعندما استفحل طغيان النظام وبات أكثر فسادا لم تقف السينما موقف المتفرج ولكن قامت بتطوير أسلوبها في المواجهة من جديد، وراحت توضح ما حدث في الفترة التي مضت وفي حاضرها أيضا فمثلا في فيلم “زمن حاتم زهران” أصرت الكاميرا على رصد التغيير الذي طرأ عبر سنوات تلت حرب أكتوبر وكيف أن الوريث رجل غير متسق مع ذاته مع أنه يبدو ساحرا في أسلوبه، ولكن إذا اقتربت منه على الفور تلحظ هذا الخلل وعدم القناعة بالذات والتي تدفعه للسيطرة على كل من حوله والدليل، الذي قدمته الدراما على اهتزاز هذا الرجل الأسطوري شقيق حاتم زهران هو أنه عقيم لا يستطيع الإنجاب في إشارة واضحة إلى عقم النظام الحاكم. هذا النقص الذي يدفعه نحو الهاوية بسبب النقص الذي يعانيه في شخصيته والقصور الذي يعانيه في فكره الذي يدفعه نحو انتهاج الرأسمالية الشرسة بغير قلب ويدوس على كل البشر في جموحه الجنوني.
ورأى أن السينما استمرت في الكشف عن الحقيقة في زمن التسعينيات مبشرة بأن التغيير سيأتي حتما، وقال إنه مع الانتقال للقرن الحادي والعشرين دخلت الصناعة العريقة وقد تجدد شبابها على يد مجموعة كبيرة من الفنانين الشبان الجدد، والذين اعتمدوا أسلوبا أكثر وضوحا هذه المرة في الوقت الذي استشرى فيه الفساد أكثر وأكثر، وتزاوج رأس المال والسلطة بأسلوب لم يعرفه العالم من قبل. وعلى الفور تعاملت السينما مع هذا الوضع بكل وضوح ومكاشفة وتحدثت في أفلامها عما عرف ببرنامج الخصخصة، ذلك البرنامج المشبوه الذي ابتدعه مبارك واستولى به مع حاشيته على ثروات المصريين، ورأينا عملا كفيلم “حسن طياره” والذي يقدم شخصية محام شاب شريف قرر التصدي لرجل أعمال فاسد استولى على أحد مصانع القطاع العام وشرد مئات العاملين به، وغيره من الأعمال التي كانت أكثر صراحة من ذي قبل.
اختار رشاد لكتابه واحدا وثلاثين فيلما قدمتها السينما المصرية على مدار ثلاثين عاما قسمها إلى ثلاثة فصول كل فصل يحمل مجموعة من الأعمال التي أنتجتها السينما في حقبة زمنية واحدة. في الفصل الأول تناول أفلاما منها “حتى لا يطير الدخان” الذي يكشف فساد الصفوة الذي خرجوا عن المألوف وفسدوا بكل ما تحمله الكلمة من معنى حتى أصبحوا أسياد الشعب وحكامه، وفيلم “الصعاليك” الذي أشار إلى فساد النظام حيث كانت بداية موضة شراكة رجال الأعمال برجال السلطة مما أسهم في تراجع البلاد اقتصاديا، وفيلم “التوت والنبوت” المأخوذ عن إحدى حكايات الحرافيش لنجيب محفوظ والذي عرض في عام 1986 وأخرجه نيازي مصطفى فقد أثر الابتعاد عن التصريح بفساد شخصيات الحاضر وعاد بنا إلى زمن الفتوات، حيث يبعث برسالة من الماضي عن حلم بإقامة دولة العدل التي يحمي فيها النظام الشعب ويحافظ على أمنه وسلمه. وفيلم “كركون في الشارع” والذي ناقش مشكلة السكن التي كانت قد بلغت ذروتها بالإضافة إلى عجز أبناء الطبقة المتوسطة عن تأمين احتياجاتهم الأساسية التي تتمثل في ملاذ آمن وبسيط لهم.
وفي الحقبة التالية التي تناولها في الفصل الثاني، رأى رشاد أنها قدمت أفلاما متميزة حلل وناقش منها سبعة أفلام منها فيلم “اللعب مع الكبار” للمخرج شريف عرفه، ويحكي عن رجل عاطل ناهز الأربعين من العمر توصل عن طريق صديقه مهندس الاتصالات بسنترال رمسيس إلى معلومات خطيرة عن عمليات فساد، يتوجه الرجل لأحد ضباط أمن الدولة الشرفاء ليخبره بما توصل إليه، ويتدخل الضابط لإنقاذ الموقف لكن يظل الأمر لغزا بالنسبة لهذا الضابط ولا يعني انكشاف السر أو اللغز سوى كارثة على الجميع تؤكد قدرة ونفوذ من يعبثون بأمن الوطن. وفيلم “الهروب” للمخرج عاطف الطيب الذي عالج موضوع فساد وزارة الداخلية والخشونة المفرطة التي يتعامل بها الضباط مع المواطنين. وفيلم “طيور الظلام” الذي غاص إلى أعماق النظام كاشفا كيف يتلاعب الفاسدون ويتربح المسئولون من وظائفهم ليجمعوا الثروات من دم الشعب المصري وكيف يتحايلون لإخفاء ثرواتهم، كما يتطرق إلى الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المتشددة والذي بلغ ذروته وقت إنتاج الفيلم الذي أوضح أنهم أيضا فاسدون لكنهم ينتظرون دورهم ليصلوا إلى الحكم باسم الدين.
ويتعرض أيضا رشاد إلى أفلام “الإرهاب والكباب” و”أمريكا شيكا بيكا” و”المصير”، حيث رصدت الأفلام السبعة للتغيير الذي جاء على أيدي صناع الأفلام الجدد الذين فرضوا على السينما أسلوبا مختلفا في التناول سعيا نحو توعية الجماهير والتي ظلت السينما المصرية تمارسها لتستطيع تحريك الجماهير للقيام بفعل شيء حتى ولو لم يكن ثورة فليكن موقفا إيجابيا، لنصل إلى الألفية الجديدة ومع ظهور جيل جديد أعاد للصناعة حيويتها وشبابها إلى ثورة حقيقية أبهرت العالم أجمع.
هذه السينما كانت محور أفلام الفصل الثالث، حيث لفت رشاد إلى أنها “بدأت في التعامل مع مسألة الفساد بشكل أكثر وضوحا، وكان تحريضها للجماهير أكثر تأثيرا من خلال أفلام أكثر قربا لقلوب الشباب”. وقد رصد الفصل عدد ثمانية عشر فيلما أنتجتها السينما المصرية في مطلع القرن الـ 21 كلها وجهت ضربات مباشرة للنظام الحاكم وكلها انحازت لصفوف الجماهير وطالبت بالعدل والمساواة، بل وحركة الثورة المصرية وكانت بمثابة الوقود الحقيقي لها.
من هذه الأفلام “أرض الخوف” لداود عبدالسيد الذي تعرض إلى الإهمال الجسيم الذي سيطر على دوائر العمل الحكومي في عهد مبارك حيث تقارير الضابط الذي تم زرعه في عالم الإجرام مهملة لا تجد من يقرؤها سوى موسى موظف البريد، ومنذ العام 1981 فقد الضابط الاتصال بقيادته والتي ظلت تتابعه مع تغير المسئولين حيث يورث كل مسئول السر الذي يخلفه حتى جاء مبارك ليهدم بابتعاده عن العمل لصالح الوطن مما جعل الضابط في موقف لا يحسد عليه في أرض الخوف وهو اسم العملية التي كلفته بها الدولة منذ عصر جمال عبدالنصر، وفي تلميحات واضحة أشار الفيلم إلى أن النظام تقريبا هو الذي سمح بدخول الكوكايين إلى مصر مطلع الثمانينيات.
ويتابع رشاد تحليل أفلام تلك المرحلة متوقفا مع أفلام منها “العاصفة” الذي تناول اشتراك الجيش المصري مع قوات حلف الناتو في الهجوم على الجيش العراقي في مطلع التسعينيات فيما عرف بحرب “عاصفة الصحراء”، وفيلم “معالي الوزير” الذي قدم وزيرا فاسدا وصل إلى منصبه بالصدفة كما حدث مع مبارك الذي قادته الصدفة عقب اغتيال السادات إلى الحكم، وأفلام “عاوز حقي”، و”السفارة في العمارة”، و”وش إجرام”، و”ظاظا”، و”حين ميسرة”، و”دكان شحاته” و”واحد صفر” و”بنتين من مصر” و”عسل أسود”.
وهكذا استوفى رشاد في كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بتقديم الناقد وليد سيف جوانب تعكس صورة أقرب للتكامل عن دور الفيلم المصري في تناول حقوق الإنسان والكشف عن صور من انتهاك كرامته في السنوات التي سبقت قيام ثورة 25 يناير 2011.
ميدل إيست أونلاين