ما مِنْ شكٍّ في أنَّ ما حدثَ في سُورية صبيحةَ الثامنِ من كانون الأوّل ٢٠٢٤ يُؤكِّدُ أنّ ثمّةَ مُشكلةً كبيرةً بينَ الحاكمِ وأجهزةِ حُكْمِهِ الاستبداديّةِ وبينَ الشَّعْب، كما أنَّ هُناكَ جِداراً عازلاً بينَ الطَّبَقةِ الحاكمةِ وأجهزتِها وبينَ رأيِ الشَّعبِ وتَطلُّعاتِه، بلْ إنّ ما حدثَ يُثبِتُ، بما لا يَدعُ مجالاً للشَّكِّ، أنَّ المُثقَّفَ كانَ مُغيَّباً في لَحَظاتِ القرارِ ومُستهدَفاً في لحظاتِ الخَطَر، بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من غيابِ حُرّيّةِ الثَّقافةِ والنَّقْدِ والتعبير، ولهذا غابَتْ أصواتُ المُثقَّفِينَ نتيجةَ السَّطْوَةِ الحديديّةِ وسياسةِ كَمِّ الأفواهِ وفَتْحِ مزيدٍ من السُّجونِ والمُعْتَقَلاتِ وقَمْعِ الحُرِّيّاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، بطريقةٍ غدا فيها الصَّوتُ الواحدُ هُوَ الحاضِرَ الأقوى في المَشْهَدِ، وقد أحْدَثَ هذا مُشكلاتٍ كبيرةً في البِنى الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ المُختلفةِ وفي المِزاجِ السِّياسيِّ أيضاً.
لقد كانَ إشْراكُ المُثقَّفِ والكاتبِ في البحثِ عن حُلولٍ للمُشكِلاتِ التي عَصَفَتْ بالبلدِ والمُجتمَعِ إشْراكاً وَهْميّاً مِنْ شأنِهِ إيهامُ العالَمِ بوُجودِ شَراكةٍ بينَ مُكوِّناتِ المُجتمَعِ الثقافيّةِ والمعرفيّةِ والفكريّةِ، في الوقتِ الذي كانَ المُثقَّفُ والكاتبُ يُعانِيانِ فيهِ مِنَ المُلاحَقةِ والاعتقالِ والتَّنْكيلِ، وكانَ الهدفُ الأساسيُّ لبعضِ المُؤسَّساتِ الثَّقافيّةِ والإبداعيّةِ رَفْعَ الظُّلْمِ الواقعِ على بعضِ الأعضاءِ فيها، وهُوَ ما حَدَثَ في كثيرٍ من المُؤسَّساتِ، ومنها اتِّحادُ الكُتّابِ العرَبِ في سُورية، فقد انْشَغَلَتْ هذهِ المُؤسَّسةُ برَفْعِ الظُّلْمِ الواقعِ على بعضِ الأعضاءِ فيها أو الكُتّابِ الذينَ آثَرُوا تقديمَ كِتاباتٍ ونُصوصٍ لا تَتوافَقُ معَ السياسةِ العامّةِ لنِظامِ الحُكْمِ، ولهذا كانَ مصيرُ بَعْضِهِم المُلاحقةَ أو السّجنَ كما حدثَ معَ عددٍ كبيرٍ منهم، وأذكرُ على سبيل المثال: (ح، ع، ح – م، ع، خ- ح، م- أ، ز، م- ر، س- ش، ش)، وغيرهم مِنَ الكُتّابِ والمُثقَّفينَ الوطنيّين، إضافةً إلى مُحاوَلاتِ مَنْعِ كُتُبٍ وإصداراتٍ لبعضِ الكُتّابِ بسببِ نَقْدِهِمْ بعضَ المُمارَساتِ التَّعسُّفيّةِ وحديثِهم عن التَّجاوُزاتِ التي تَحدُثُ هُنا وهُناك.
إنّ ما حدثَ في سُورية يدفعُ المُثقَّفَ والمُفكِّرَ والمُبدِعَ إلى إعادَةِ التركيزِ على الإنسانِ بوَصْفِهِ مركزاً ومِعْياراً، وتأكيدِ العقلِ مرجعاً، والضَّميرِ حَكَماً أخلاقيّاً إنسانيّاً، وتأكيدِ قِيَمِ الحُرّيّةِ والعَدالَةِ والمُساواةِ، معَ التَّرْكيزِ على أنَّ مُعانَدةَ حرَكةِ التاريخِ وقَلْبَ المعاييرِ لا يُمكِنُ أن يَسْتَمِرّا إلى ما لانهاية، ولا بُدَّ للمُثقَّفِ أنَ ينهضَ بدَوْرِهِ الرَّسُوليِّ بفَحْصِهِ الواقعَ الراهِنَ والانتقالِ بهِ إلى مُستقبَلٍ قائمٍ على الحَرَكيّةِ والتَّجدُّدِ والانْعِتاقِ مِنْ كُلِّ ما مِنْ شأنِهِ أن يَجْعَلَهُ شريكاً في القَمْعِ والاستبدادِ والقَهْرِ المُجتَمَعيّ.
لقد آنَ الأوانُ لوَضْعِ حدٍّ لتسطيحِ الثقافةِ والتَّعامُلِ معَها بوَصْفِها سلعةً استهلاكيّةً من خلالِ المنهجِ المنقوصِ وغيرِ المُتماسِكِ في تأديةِ المهمّاتِ الثقافيّة، كما آنَ الأوانُ للتَّخلُّصِ من كثيرٍ من المُحرَّماتِ الوهميّةِ التي أدّتْ إلى تجميدِ ثقافَتِنا وفِعْلِنا الإبداعيِّ الحضاريِّ عِندَ مفاهيمِ العصرِ الوسيطِ أو ما قَبْلَهُ، وهُوَ ما عَرْقَلَ مُحاوَلاتِ الانفتاحِ والتَّطوُّرِ المعرفيِّ والإبداعيِّ، ومَنَعَ الحِوارَ الداخليَّ والحوارَ معَ الآخرِ خارجَ البِلادِ بحُجّةِ الخُصوصيّةِ الثقافيّةِ والهُوِيّةِ الثَّقافيّة.
إنَّ التَّطوُّرَ المُتَسارِعَ للعِلْمِ يجبُ أنْ يُرافِقَهُ تَطوُّرٌ معرفيٌّ وثقافيٌّ قائمٌ على الحُرّيّةِ والانعتاقِ مِنَ الخوفِ، وهذا لا يتحقّقُ إلّا بمزيدٍ من الوَعْيِ والحُرّيّةِ، حتّى لا تَتحوّلَ الثقافةُ فِعْلٍ همجيٍّ من شأنِهِ أن يُدمِّرَ المُجتمَعاتِ، ويَجْعَلَها خاليةً من أيِّ فعلٍ ثقافيٍّ قادرٍ على التغييرِ الحقيقيِّ، ولا سيّما أنّ العلاقةَ بينَ الثقافةِ والمُجتمَعِ علاقةٌ قويّةٌ ومُتَداخِلةٌ على نحوٍ عميقٍ، بلْ لا يُمكِنُ تَعرُّفُ فِكْرَةِ الثقافةِ وبَلْوَرَتُها إلّا بوُجودِ المُجتمَعِ، كما لا يُمكِنُ تَعرُّفُ فِكْرَةِ المُجتمَعِ بوَصْفِهِ مَعْنىً كُلّيّاً مُركّباً لهُ حُدودٌ وأشكالٌ تَتَمايَزُ وتختلفُ عمّا في غيرِهِ مِنَ المُجتمَعاتِ إلّا بوُجودِ فكرةِ الثقافة، ومِنْ ثَمَّ لا وُجودَ للثَّقافةِ إلّا بوُجودِ المُجتمَع، كما أنَّ المُجتمَعَ لا يقومُ ويبقى إلّا بالثقافةِ القائمةِ على ثوابتِ التَّخلُّصِ مِنَ القُيودِ والانْعِتاقِ مِن الاستعباد.
إنّنا أمامَ فُرصةٍ تاريخيّةٍ لاستعادةِ زِمامِ المُبادَرةِ لفِعْلٍ ثقافيٍّ حُرٍّ وإبداعٍ حقيقيٍّ يُحطِّمُ القُيودَ والأغلالَ التي أحْكَمَتِ الخِناقَ على عُقولِنا سَنَواتٍ طويلةً، لكنَّ السُّؤالَ الذي يَفْرِضُ نَفْسَهُ هو: أسَيَكُونُ الكاتبُ والمُثقَّفُ والمُبدِعُ على قَدْرِ المسؤوليّةِ والمُرَاجعةِ في هذهِ اللَّحْظَةِ التاريخيّةِ الفارقةِ والحاسمةِ، أم سيُدْخِلُ نَفْسَهُ ومُجتمَعَهُ في أتُونِ حُروبٍ كلاميّةٍ عميقةٍ مِنْ شأنِها أنْ تَزِيدَ الشَّرْخَ في المُجتَمَعِ المَكْلُومِ أساساً؟!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة