شاعرة الرفض والاحتجاج ضد إسرائيل .. مَنْ قتلها؟ (علي عبدالفتاح)
علي عبدالفتاح
شاعرة كوردة تعانقها الحقول.. نجمة في سماء الشعر والفن والأدب.. عشقت الأطفال ورسمت صور البراءة على وجه الشجر الأخضر والأوراق المختالة على كف الريح.. أحبت الشعر والحياة والإنسان في كل مكان من العالم. رفضت الحروب والصراع والعنصرية والأحقاد وتغنت بالقيم الإنسانية والوجود الذي يحتوي البشر في سماء من الحرية وأرض تقدس العدل وتعشق الجمال والخير والسلام. فهل كان من الممكن أن تنتحر هذه الشاعرة؟ أم أن رصاصات الغدر قد شقت قلبها وتناثر خصبًا ونماء في باطن الأرض لتطرح أشجارًا تظلل للحائرين والضائعين في هذا الكون؟
***
ولدت الشاعرة الإسرائيلية "دالية رابيكوفيتش" عام 1936 في رمات غان. وأنهت دراستها الثانوية في حيفا والجامعية في القدس. بدأت في نشر أشعارها في الخمسينيات، وكتبت قصائد للأطفال تصور القيم الإنسانية والأخلاقيات والطبيعة الساحرة. كما أنها قامت بترجمة قصائد عالمية إلى العبرية لشعراء معروفين من أمثال: وليام بتلر ييتس، وأدغار ألين بو، وتي. س. اليوت.. وغيرهم. وتعد من أهم رموز الشعر والأدب الإسرائيلي المعاصر ولكنها لا تنتمي إلى أحزاب أو اتجاهات سياسية غير أن نظرتها إلى العالم قائمة على احترام البشر والأديان والدعوة إلى الحب والقيم الإنسانية.
عاشت رابيكوفيتش حياة مضطربة ومؤلمة، فقد تزوجت عدة مرات وفشلت حياتها، وانتهت بطفل يحيا مع والده، وحرمت منه تمامًا. اتجهت قصائدها إلى تصوير المشاعر الإنسانية، حيث تتعاطف مع الفقراء وتشارك الناس مشاعرهم في أيام المحن والشقاء. ولذلك ترفض الظلم والقهر والحروب، واستعباد البشر، واستغلال طاقاتهم من أجل نشر ثقافة الاستعلاء والعنصرية. وتدعو إلى الحب والسلام والعدل في كل مكان وتقول:
سأخبرك بالأفضل أيها الإنسان
وبما يطلب منك الله
دع المعبود في معبده
كفانا قولًا
سأخبرك بالأفضل أيها الإنسان
إنك ملزمٌ بالتفرّغ
وما معنى ملزم؟ ملزم.
وتلاحظ كيف تدعو إلى الالتزام بهؤلاء الذين يناضلون في الحياة من أجل رغيف الخبز والرزق، وأننا يجب أن نكون بجوارهم نساندهم، وتلك نظرة إنسانية شاملة لا تختص بشعب أو حكومة الشاعرة، وإنما يمتد حبها إلى العالم أو الإنسان في كل مكان وتقول:
ها هنا عن يمينك إنسان
ما زال صبيًا
يواجه صعوبات في لقمة العيش..
وأخرى في الهوية
في الليل يختنق
من الخوف والقلق..
لا من ضيق في التنفس ..
كم يعانون في الحاجة إلى صداقة..
تلتزم قليلًا..
وتظل قضية الحب لديها تمثل كل شيء في الحياة، إذ أننا جميعًا علينا أن نعيش في عالم يضيء جنباته نبضات الحب والتعاطف والحنان، وأن نساند بعضنا في مواجهة قسوة الحياة والمحن، وتقول:
لكني أملك الجرأة لأقول
الكل متعطشون للحب
ومن لم يملأ كأس ماءٍ للعطشان
نهايته أن يبتلع فراغ فمه
حتى آخر أيامه.
لذلك اشتهرت قصائدها في إسرائيل وأوروبا ومنُحت الشاعرة رابيكوفيتش جوائز كثيرة منها: جائزة بياليك "1987"، جائزة إسرائيل "1998"، جائزة شلونسكي، وجائزة رئيس الوزراء للأدباء العبريين "2005"، كما حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة حيفا عام 2000.
***
كانت الشاعرة ترفض سياسة القمع والاضطهاد التي تمارسها إسرائيل ضد أبناء الأرض الفلسطينية فانفجر الغضب والحزن في حياتها، وبدأت تكتب قصائد مشحونة بالاعتراض على سياسة القهر والاغتيال وسفك دماء الأبرياء؛ ولذلك أصبحت الشاعرة من رواد تيار الرفض والاعتراض والاحتجاج على إسرائيل وسياستها القائمة على العنف والقهر داخل فلسطين. ومن هنا بدأ تعاطف الشاعرة مع القضية الفلسطينية والانحياز إلى الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وحريته.
وفي مذبحة صبرا وشاتيلا صرخت الشاعرة ضد إسرائيل وتعاطفت مع ضحايا أبناء الأرض وكتبت:
إلى البِرك المراقة.. في صبرا وشاتيلا
حيث نقلتم كمياتٍ من البشر
– كانت تستحق الاحترام
– من العالم الحي.. إلى العالم الحق.
***
ليلة إثر ليلة
بداية.. رصاصاتهم أطلقوا
ثم الضحايا علّقوا
وأخيرًا ..
ذبحوا بالسكاكين.
نساءٌ مذهولات.. ظهرن مستنجدات
من فوق التلال المعفّرة
"إنهم يذبحوننا هناك..
في شاتيلا!
وعندما اجتاحت إسرائيل لبنان 1982 عبرت رابيكوفيتش عن موقفها الرافض للحرب والداعي للسلام، وكتبت قصائد كثيرة توجه الإدانة إلى إسرائيل، ومن هذه القصائد التي أثارت الغضب ضدها قصيدة من وجهة نظر فدائي فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية انتحارية وهو يحترق أمام الجميع، وتقول في هذه القصيدة:
حين التقطت النار جسده.. لم يأتِ ذلك بالتدريج
لم تسبقه نوبةٌ حرارية..
ولا موجةُ دخانٍ خانق
ولا غرفةٌ مجاورةٌ يلوذ بها
أمسكته النار فورًا!
ليس لهذا مثيل
قشّرَت ثيابه
تشبّثَت بلحمه..
وبدأ صوت الشاعرة يخترق الآفاق ويرحل في الهضاب والوديان داخل فلسطين والعالم العربي والغربي. وفي يناير 2000 ظهرت على شاشة الـCNN. لتعبر عن رفضها لحكومة باراك التي تستولى على الأراضي الفلسطينية بمنطقة جبل الخليل، وهو الفعل الذي تسبب في هجرة الفلسطينيين من المنطقة، وزارت رابيكوفيتش المنطقة مع وفد من الأدباء والشعراء لتعبر عن تضامنها مع المواطنين الذين يتم إخلاؤهم. وتحدثت صحف العالم عن قصيدتها في وصف الفلسطيني الذي أقدم على العملية الانتحارية وتقول عنه:
أعصابُ الجلد أصيبت أولًا
والشَّعر غدا طعامًا للنيران
"ربّي.. إني أحترق!!".. قد صرخ!!
هذا كل ما أمكنه أن يفعل دفاعًا عن ذاته.
قد اشتعل اللحمُ مع كُتل السقيفة
تلك التي شكّلت بداية الحريق
لم يعد يملك وعيًا..
والنارُ التي اقتاتت على اللحم
أخرسَت إحساسَه بالمستقبل
وبذكريات عائلته.
وتعتبر هذه القصيدة من أروع قصائد الشاعرة التي أثارت الجدل، إذ كيف تنحاز شاعرة إسرائيلية إلى العرب وتساند قضيتهم وتشعل نار الغضب في سياسية إسرائيل؟ وتلقت الشاعرة رسائل تهديد إذا استمرت في كتابة هذا الشعر السياسي. وقد ترجمت هذه القصيدة من العبرية إلى جميع لغات العالم، وشعر قادة إسرائيل بالخزي والعار أمام الرأي العام العالمي والشاعرة في جرأة وبطولة وشجاعة تصرخ من أجل الأطفال الذين يسقطون صرعى تحت نيران الجنود الإسرائيليين.
قد فقدَ ارتباطه بطفولته
فصرخ دون حدودٍ من عقل
وفقدَ ارتباطه بكل عائلته
فلم يطلب انتقامًا، ولا خلاصًا، ليرى الفجر القادم
لم يطلب سوى التوقف عن الاشتعال
لكن جسده كان قوتاً للحريق ..
وبدا مقيَّدًا ومكبَّلًا ..
لكنه لم يفكر حتى في هذا!
وفي 21 أغسطس/آب عام 2005 تم العثور عليها ميتة في شقتها استنتجت جميع الصحف أنها قد انتحرت. ولكن الطب الشرعي أثبت عدم العثور على كميات زائدة من الأدوية في جسدها. وأعلن الطبيب عن وجود تضخم في قلبها ماتت بسببه.
من دواوينها: "الحب تفاحة ذهبية" 1959، "شتاء قاسٍ" 1964، "الكتاب الثالث" 1969، "هاوية قارئة" 1976، "أم وطفل" 1992، "مياه كثيرة: أشعار 1995- 2005- 2006".
ومن مجموعاتها القصصية: "الموت في العائلة" 1976، "جاءت وذهبت" 2005، وقامت بتحرير الكتاب الأخير الأديبة "أورلي كاستل بلوم".
وأذيع خبر موت الشاعرة المدافعة عن الحق والعدل والحرية كالتالي:
تاريخ النشر: 21/08/2005 – ساعة النشر: 20:31
"أفادت الإذاعة الإسرائيلية، مساء اليوم أن الشاعرة الإسرائيلية دالية رابيكوفيتش، التي عثر على جثتها في منزلها في تل أبيب، اليوم الأحد، قد أقدمت على الانتحار، حسب ما يستدل من التحقيقات".
فمن قتل الوردة؟ من قتل الصوت الذي كشف مذابح إسرائيل في فلسطين؟ كانت أشعارها تتسم باتجاه سياسي وإنساني متأثرة بمعاناة الشعبين الفلسطيني واللبناني. فعُرفت كناشطة سياسية ضد الاحتلال ومناصرة للقضية الفلسطينية، وداعية إلى السلم العالمي والتسامح وتعرّضت إثر هذا لهجمة ضارية بعد نشرها لمونولوج على لسان شاب فلسطيني في طريقه لعملية انتحارية تعاطفًا مع معاناة الفلسطينيين. فارقت الحياة بتاريخ 21 أغسطس2005. رغم أن الكثيرين رفضوا التسليم بأن موتها كان انتحارًا.
تقول في هذا المونولوج على لسان شاب فلسطيني:
إسرائيل، أعطيني علامة.
إسرائيل، هناك أخبار سريعة خاصة، هدوء.
إسرائيل، لماذا تحديداً في غبشة فجر غزة.
ربما يكون الجو مظلمًا قليلًا؟ رومانسية؟
إسرائيل، بدأنا من جديد؟
إسرائيل، ماذا سيحدث؟
على بالي التقيؤ
كانت الشاعرة تطلق تلك الصرخات الحادة ضد كل العنف والمذابح التي تمارسها إسرائيل ضد العرب وتدهش الشاعرة للمذابح ضد غزة والقنابل والصواريخ واقتحام البيوت وتشريد الأهل والنساء والأطفال. ولذلك تطرح التساؤلات وتشعر بالحيرة والحزن والألم يعتصر روحها وتظل تقاوم وتكتب قصائد الرفض والغضب حتى بدأت حكومة إسرائيل تشعر بالقلق والسخط على الشاعرة التي تقول:
يا إسرائيل.. وهذا قبل أن أدفع في فمي قهوة باثني عشر شيكل
وفطيرة من الأمس في المحطة الرئيسية
إسرائيل… أنا أنتظر مسيحاً مع قليل من الشوك
أو المسامير أو شيء ما لحماره
إسرائيل أعرف، تعتقدين أنني أهذي
أنا ميت من الخوف
لا لست مصابا، يا مجنونة
ليس صاروخ قسام أيضا
إسرائيل، أنت تعيقينني مجدداً عن الوصول لنقطتي
هذه هي الشاعرة المنحازة إلى قضية العرب في فلسطين، ولذلك نكرر من قتل الشاعرة واستباح دمها البريء؟ هل انتحرت حقًّا أم تم اغتيالها ليصمت صوت الحرية والحق؟
***
كتب عنها الشاعر الفلسطيني مهيب البرغوثي بتاريخ 17/9/2005 قائلا:
هناك حيث الاشجار اعلى
من قاماتنا
كنت تضحكين حول الكرمل وكنا
مثقلين بالورق الزيتي والكوؤس
اكيد انك لم تقصدي ان
تصوري الاصدقاء
حول النار
وزجاجات الشمبانيا
تفور باللذة
دالية
بعد 5 سنوات
وبعض الكوؤس
كنت ضحية مثلي
لوسواس الحرب
واصدقاء باعوك جملا كأكمام قميص النوم
وصور لمجزرة قد تحدث
ان الشعر يا صديقتي تماما
كزجاجة الماء التي تعرف انها في نهاية الامر
ستقع بين ايدي اطفال صغار
أتذكر يغال
وشقتك في مدينة ما لها اسم سوى ذكراك
اما زالت صور غسان كنفاني وجيفارا
على الحائط
والقلب في الكرمل والكأس انتهى؟