شاكر السماوي: الشاعر الذي عاكس اتجاه الريح!
I
حين تفقد عزيزاً أو صديقاً لا تقوى أحياناً على الكتابة والتعبير عن حزنك، والأمر يعود إلى أنك لا تريد توديعه وكأنك لا تلتقيه مرّة أخرى، فتضطر لتأجيل الكتابة عنه لحين يستقر مزاجك ويتعقلن أساك، لتمسك بالقلم وبعدها تحاول تطويع الكلمات بما يتناسب مع حزنك وفداحة فقدانك. وقد حصل الأمر معي عدّة مرّات، فأوجل الكتابة أو أوجل نشر ما كتبت لكي لا يأتي انفعالياً أو عاطفياً .
لقد تعسّرت كلماتي عند وفاة والدتي العام 2007، ثم استوعبت ما حدث بالتدريج فكتبت عنها أكثر من موضوع واستحضرتها بأكثر من مناسبة. آخر مرّة احتار قلمي فتوقفت عند منتصف الكتابة بعد يومين من رحيل محمود البياتي الروائي والصحافي، الصديق الأكثر قرباً إلى القلب والعقل والوجدان، مؤجلاً ذلك إلى مناسبة تكريم، أو لحين أن أكون قادراً على ذلك.
عند سماع خبر رحيل الصديق الشاعر شاكر السماوي تعسّرت كتابتي أيضاً، لكنني على نحو مفاجئ استعدت نحو نصف قرن من الزمان، هكذا فاجأني القلم هذه المرّة سريعاً حين تدفّق فيض الذكريات الحارة، ليستعرض صداقة مديدة لم تخدشها عاديات الزمن بالاتفاق أو بالاختلاف، وبالقرب أو البعد، فقد كنت قد تعرّفت على الشاعر والمثقف العراقي الواسع الثقافة شاكر السماوي في أواسط الستينيات في بغداد، وكان قادماً إليها من الديوانية، وكنت حين ذاك في الصف الثالث في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث كنّا نلتقي في مقهى عارف آغا بصحبة الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي سبق أن كتبت عنه باستذكار شاكر السماوي، إضافة إلى عزيز حسون عذاب (طالب الصيدلة حينها) ورفيقنا لاحقاً وفيما بعد بحضور عزيز السيد جاسم وكذلك عزيز السماوي وهو شقيق الشاعر شاكر السماوي، وهو أيضاً شاعر شعبي مجدّد وآخرين. وتوطّدت علاقتي مع شاكر السماوي بعد تخرجي من الجامعة في العام 1967-1968.
وكانت النقاشات حينها حامية على صعيد السياسة والثقافة والأدب وقضايا اجتماعية مختلفة، ولكن الجانب الأكثر إثارة واهتماماً كان هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 وانشقاق القيادة المركزية، وتوزّع الشيوعيين على جناحين “اللجنة المركزية والقيادة المركزية” وشعارات ومواقف كل منهما: هل كل شيء إلى الجبهة؟ أم كل شيء من أجل الجبهة؟ وليس بعيداً عن ذلك نقد نظامي سوريا ومصر، على الرغم من الدفاع عنهما، خصوصاً وإن العدو الإسرائيلي كان قد استهدفهما، إضافة إلى وضع مواقف الاتحاد السوفيتي على الطاولة وتقليبها من جوانبها المختلفة للتمحيص والنقد غير المباشر أحياناً، للشعور العام الذي كان يتولّد لدى أوساط غير قليلة، بأن كان بإمكانه ردع العدوان، ولكنه لم يفعل، كما فعلت الولايات المتحدة بمد “إسرائيل” بجسر جوي.
كانت الانتفاضة الطلابية والشبابية الفرنسية أيار (مايو) 1968 قد تزامنت مع إضراب الطلبة في أواخر العام 1967 وبدايات العام 1968 وتفاعلاتها لاحقاً، محط اهتمام ونقاش في الوسط الثقافي والأدبي والسياسي، لما تركته من انعكاسات على عموم فئات المجتمع، وهو ما كان يكشف عن أزمة الرأسمالية ومشكلاتها العويصة والمستعصية، انسجاماً مع الأطروحات السائدة آنذاك، بأن عصرنا هو الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
ومن المواضيع التي كانت مثار نقاش هو القصيدة العمودية بعد الجواهري، وكان هناك من يقول إن القصيدة الحصيرية هي “جواهرية”، ولكن هل ستعيش هذه القصيدة بعد حلقتها الذهبية الأخيرة؟ إضافة إلى القصيدة الحديثة وقصيدة التفعيلة وما سواها بعد بدر شاكر السيّاب. أما الشعر الشعبي فقد كان محط حوار وجدل طويلين: هل يمكن إقفال القصيدة الشعبية الحديثة على مظفر النواب؟ وأين يمكن أن نضع طارق ياسين، في حين أن اسم شاكر السماوي وكاظم اسماعيل الكَاطع وعريان السيد خلف وعزيز السماوي وآخرين نماذج متميّزة.
وثمة أسئلة أخرى: هل يمكن أن تكون القصيدة الحديثة حكراً على اليسار والشيوعيين من السيّاب وعبد الوهاب البياتي اللذان مرّا من مدرسة اليسار، إلى رشدي العامل وسعدي يوسف ويوسف الصايغ وفاضل العزاوي وآخرين، ثم أين نضع قصائد سامي مهدي وحميد سعيد وآخرين من البعثيين والقوميين؟
II
أتذكر مرّة إن النقاش تطوّر بين عزيز السماوي وعزيز حسّون عذاب وعزيز السيد جاسم، حيث كان الأول أقرب إلى أطروحات القيادة المركزية في حين أن الثاني كان قريباً من الحزب الشيوعي (اللجنة المركزية) وأصبح عضواً فاعلاً لاحقاً، أما الثالث فقد كان شيوعياً سابقاً وهو مفكر وقلم دفّاق، وكان ينقد الإثنين، ولكن نقده كان يريد التقريب من التوجه الجديد للحكومة العراقية بعد 17 تموز (يوليو) 1968، خصوصاً وقد استلم مجلة “وعي العمال ” لاحقاً، وتعمقت علاقته مع عبد الخالق السامرائي وبعدد من أركان الحكم الجديد، وكان يأمل مخلصاً في أن تتم الجهود بالتوصل إلى الجبهة الوطنية، وقد كتب الكثير من التنظيرات في صحيفة الثورة.
وبعد نقاش حام لا أتذكر من قال بطريقة مملّحة (ربما عزيز السماوي): ما بالنا نشغل أنفسنا بعزيز محمد وعزيز الحاج (قائدا الجماعتين الشيوعيتين) فكلاهما ، بل وكل عزيز (كذا …) وفيما بعد هناك من تنبّه إلى أن أسماءهم ثلاثتهم هي “عزيز” أي عزيز السماوي وعزيز حسون عذاب وعزيز السيد جاسم، وسرت هذه المسألة بيننا مثلما تسري النار في الهشيم، وقد يكون هناك من رش البهارات عليها، وأضاف إليها شيئاً من عندياته، لكن شاكر السماوي كان عندما يرويها وبحضور أصحابها أحياناً، يضحك من القلب حتى تدمع عيناه.
III
كنّا نستمع إلى القصائد الجديدة لشاكر السماوي مأخوذين بقصيدته الشعبية الجديدة وصورها الجميلة ولغتها الأنيقة، أي معنى ومبنى، وغالباً ما كانت تجري مقارنات بينه وبين النوّاب، وكان شاكر السماوي حريصاً على بقاء صوته متميّزاً ولونه الشعري خاصاً، مع إقراره بإبداع النواب ورياديته، لكنه في الوقت ذاته يعتبر نفسه مجدّداً وله أسلوبه المتميّز، لغة وإيحاء وصوراً، إضافة إلى قراءاته النقدية ونصوصه المسرحية، فقد كان السماوي متنوّع الاهتمامات مثلما هو النوّاب، فالأخير كان شاعراً ورساماً وله صوت آخّاذ، وكان يأتلف مع سعدي الحديثي في ثنائية جميلة، بدأها في السجن وامتدت لاحقاً إلى عواصم عديدة من الدول العربية وخصوصاً سورية ولبنان والخليج إلى الجزائر والمغرب العربي ومن بريطانيا إلى عموم أوروبا وصولاً إلى أمريكا، فضلاً عن العراق مصدر الإلهام الأول، حيث يحتفظ جيل كامل بما قدّمه النواب.
أما السماوي فقد شغل نفسه وانشغل بالمسرح أيضاً، وكتب فيه وتابع حرفياته، وأتذكّر أنني عندما أصدرت كتابي ” سيناريو محكمة القدس الدولية العليا” في دمشق قال إن فيه شيئاً يمكن أن يتمسرح، وقد بدأ بقراءته لإعداده، وكنّا قد فكرنا بمن يمكنه إخراجه كمسرحية وتمت مفاتحة جهة فلسطينية بذلك، وحصل ذلك في ظرف إلتبس فيه الصراع السياسي، لاسيّما الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية، وخصوصاً من موضوع احتلال الفاو الذي كان السماوي شديد التأثر له، وكان موقفه بهذا المعنى قريباً لحدّ التطابق مع موقفنا في حركة المنبر التي اختلفت مع قيادة الحزب الشيوعي الرسمية آنذاك.
IV
لم يكن شاكر السماوي قلقاً فحسب، بل ومهجوساً من الحملة التي استهدفت القيادة المركزية، خصوصاً الاعتقالات التي تعرّض لها الكثير من أصدقائه بينهم عبد الرحمن طهمازي، فضلاً عن حالة الوجوم التي نجمت عن ذلك، وكان في كل لقاء بيني وبينه ينتقد بعض اندفاعاتنا باتجاه التحالف مع حزب البعث. وأتذكّر كيف رأيته منفعلاً وهو يناقش عزيز السيد جاسم في مقهى عارف آغا أواخر آذار (مارس) العام 1970، أي بعد عدّة أيام من اختطاف محمد الخضري واغتياله في ظرف مريب وملتبس وذلك بعد بيان 11 آذار (مارس)، حيث كان متوجهاً لحضور الاحتفال الذي كان من المقرّر إقامته في صدر القناة يوم 20 آذار (مارس)، وعشية المسيرة الاحتفالية بالمناسبة، التي تعرّضت إلى هجوم من جانب قوات الأمن، وهكذا تداخلت المسائل، حيث تم اختطاف الخضري وهو يقود سيارته في الطريق إلى الاحتفال، وكان وجهاً معروفاً ومفاوضاً في نقابة المعلمين، مع الدكتور صفاء الحافظ عن الحزب الشيوعي في القائمة المهنية، حيث كان له فيها دوراً قيادياً.
وكان السماوي قد حضر مجلس الفاتحة في حي القاهرة يوم 21 آذار (مارس) الذي أقيم على روحه (في منزله) واستمع بتأثّر وأسى إلى الكلمات التي قيلت بحقه فقد تكّلم عنه كل من د. صفاء الحافظ وعبد الرزاق الصافي وعبد الحسين شعبان.
أستذكر حادث مقهى عارف آغا الذي دخلته بعد أيام من اغتيال الخضري ورأيت عزيز السيد جاسم وشاكر السماوي، وكان جالساً معهما عبد الأمير الحصيري وآخرين لا أتذكرهم فسلّمت عليهم ودعوني للجلوس معهم، فاقتربت منهم، لكنني لاحظت وضعاً غير اعتيادي في المقهى وعلى غير العادة، وقال السماوي جاء فلان لنسأله ما الذي يجري؟ فرويت بشكل مختصر كيف اعتقل الخضري من جهة مجهولة واقتيد إلى مكان غير معروف، وقد تم العثور على جثته بالقرب من قضاء بلد على بعد 80 كيلومتراً من بغداد، وكان جسده مطرّزاً باثنين وثلاثين إطلاقة، وإن هناك بعض الاعتقالات في مناطق الوسط والجنوب، وكانت قد وجهت ضربة إلى منظمة السماوة وحصلت اعتقالات متفرقة في البصرة والعمارة والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والكوت والديوانية وكذلك في بغداد، حيث ألقي القبض على بضعة رفاق يخطّون على الجدران تأييداً لبيان 11 آذار/ مارس وما زالوا رهن الاعتقال.
وهنا التفت عزيز السيد جاسم إلى السماوي مخاطباً إياه ” يبدو إن المسألة ثخينة”، لكن الأمر يحتاج إلى تشخيص ما هو عام وما هو مشترك، بحيث لا تطغى بعض الجوانب السلبية والمماحكات على التوجه العام الإيجابي، وقال إنه سوف لا يدخّر وسعاً في الدفاع عن الشيوعيين والمعتقلين وسيبدأ الاستفسار.
أخبرني شاكر السماوي فيما بعد إن الحوار احتدم وقد علا صوته وتدخّل أحد الجالسين وطلب هوّياتهم، وقد انفعل عزيز السيد جاسم وأبلغه صفته وعلاقاته وحال ذلك بين الرجال والجالسين، واضطرّ بعد ذلك إلى مغادرة المقهى وقال لي السماوي علينا خلال الأيام القادمة عدم التردّد على المقهى، علماً بأنني لست ممن يرتاده على نحو دائم، بل كنت أطلّ على المقهى ومقاهي أخرى، ربما مرّة كل نصف شهر أو أكثر أو أقل، وفضّل السماوي الذهاب إلى مقهى الزهاوي، لكنني لم أذهب إليه خلال تلك الفترة، حيث ضاقت الهوامش القليلة واضطررت إلى الاختفاء، لاسيّما بعد أيار (مايو) العام 1970.
كنت بعد ذلك بعدّة أشهر قد ذهبت للدراسة العليا في براغ (تشيكوسلوفاكيا) وبعد عامين أو ثلاثة وصلتني برقية من السماوي، فقد جاء للعلاج من آلام الفقرات والعظام بشكل عام، التي كان يعاني منها، وتكرّرت زيارته مرّة أخرى، وكنت حينها رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وقد نظّمنا أمسية خاصة له، وحضر احتفالاتنا بمناسبة ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وكعادته كان ساخراً وفكهاً وعميقاً، فقد التقط النواقص والثغرات في المجتمع الإشتراكي، على الرغم من انبهاره بالفنون والمسارح.
V
عند عودتي إلى العراق التقيته عدّة مرّات ودعاني في إحداها إلى بار سرجون، حيث كنّا سابقاً نتردّد على حانات آسيا وكاردينيا والشاطئ الجميل، وكان نقده المملح مستمراً وكنت دائماً استمع له وأحاوره اتفاقاً واختلافاً، وكان أيضاً مملوءًا بالمرارة والحزن ويعاني من جحود البعض، وقد أخبرته بأنه تم تعييني على ملاك جامعة بغداد، كأستاذ وسيتم الالتحاق بعد تأدية الخدمة الإلزامية، أو إذا تم انتدابي على الرغم من أن الظروف أخذت تتجه إلى التباعد.
ثم كانت لقاءاتنا المطوّلة والمستمرة في دمشق بنهاراتها الجميلة وأماسيها الحلوة ، وخصوصاً بعد عودتي من كردستان، وكانت علاقاته قد توثقت مع القيادة القومية (في سوريا)، لاسيّما مع حازم (عبد الجبار الكبيسي) وعُرض عليه ليكون رئيساً للمنتدى الثقافي العراقي، كما كان عضواً فاعلاً في رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين الديمقراطيين العراقيين مع احتفاظه بملاحظاته دائماً، فقد كان عقله نقدياً.
أتذكّر إنني دعوته للذهاب معي وبصحبة الرفيق جمعة الحلفي وربما رفيق آخر بمناسبة مرور عامين على اختفاء السيد محمد باقر الصدر، وكان ذلك في نيسان (ابريل) العام 1982، حيث اختفى الصدر في العام 1980، وبعد تفكّر قليل قال السماوي نعم سأذهب، لأن الرجل مفكّر بغض النظر عن رأيي بالحركة الدينية. وقد استقبلنا السيد عامر الحلو استقبالاً حاراً باعتباره ممثلاً للمجلس الإسلامي الأعلى وللسيد محمد باقر الحكيم، وكان بصحبته بيان جبر ” باقر جبر صولاغ” وكان يجلس بجوارنا د. فاضل الأنصاري وشفيق الياسري وراضي حسين على ما أتذكّر.
وعلى الرغم من نقده الشديد للحكم الدكتاتوري السابق في العراق، لكنه لم يتوان من تقديم ما هو وطني على ما هو خلافي، حيث رفض بشدّة المحاولات الإيرانية لاختراق الأراضي العراقية والدعوة إلى إقامة حكومة إسلامية، فضلاً عن الشروط الأخرى المعروفة.
وتجذّر هذا الموقف عند احتلال الفاو، وكنّا قد التقينا مرّة مع الجنرال غضبان السعد الذي كان هو الآخر ساخطاً على موقفنا الرسمي، ولعلّ الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية وتطوّراتها كان أحد الأسباب التي وقفت وراء افتراقنا عن إدارة الحزب. وعندما أعلن الخلاف، كان شاكر السماوي قريباً منّا، وكتب إلى جريدة المنبر التي أصدرناها عدّة مرّات، وأتذكّر منها مقالة بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لاستشهاد الرفيق فهد وكانت بعنوان ” المثل والتمثُّل” (العدد الرابع- نيسان/ابريل 1988) وكتب في (العدد الخامس- تموز/ يوليو/1988) مقالة عن أبو كَاطع بعنوان ” الناس وهذا الرجل” وقد تصدّر بها الملف الذي أعدته المنبر على عددين، وشارك فيه كل من : شاكر السماوي وجمعة الحلفي وكاظم الموسوي وعبد الباقي شنان وعبد الحسين شعبان وحميد الياسري.
كما كتب في العدد السادس (تشرين الأول/اكتوبر/1988) مقالة بعنوان ” المثقف العراقي بين التأصيل والتواصل” وذلك استجابة لدعوة المنبر للحوار الموسوم بـ “ثقافتنا الوطنية في مواجهة التحديات … من أين نبدأ وماذا نريد؟” وجاء فيها ” أنوّه إن مقالتي هذه التي أبعثها للنشر في ” المنبر” استجابة لمبادرتها المشكورة لفتح الحوار حول المحور الذي ظلّ في الظل…” ويقصد به محور الثقافة”!.
وكان قد وقّع معنا على مذكرة احتجاجية موجهة إلى رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين، والتي شملت على قائمة ضمّت 75 إسماً وكان اسم شاكر السماوي الإسم الأول بينهم، كما احتوت القائمة على عدد من الشخصيات الثقافية، ومن ضمنها على ما أتذكر عبد الخالق زنكنة ود. خالد السلام وبدور زكي وماجد عبد الرضا وعلي الصراف وجليل حيدر ود. هادي حسن وجمعة الحلفي وفاضل الربيعي ورياض النعماني وموسى السيد وكاظم الموسوي ود. عصام الحافظ وحكمت كوتاني وعبد الباقي شنان وعلي عبد العال وأسعد الجبوري وراجي عبدالله وآدم حاتم وفاروق صبري وضياء صلّوحي وفلاح صبّار وشذى الشبيبي ومحمود البياتي (سنان) وسهيلة رحيم واسماعيل خليل ومحمود شكارة وعلي عرمش شوكت وطلال شاكر ومنى سامي وابراهيم معروف وعماد الطائي وإلهام حسن وجمال محمد تقي وكمال السيد وكريم هدّاد وخيرالله سعيد وعبود ضيدان وطارق الدليمي وكاتب السطور.
وكان قد حضر معنا اجتماعاً موسعاً لحركة المنبر إلتأم في بيت الدكتور محمد جواد فارس، ناقشنا فيه توجّهات المنبر بحضور نحو 30 رفيقاً وصديقاً، ولاسيّما في مشروعه الفكري والثقافي، وكانت ملاحظاته نافذة وعميقة، سواءً ما يتعلق بالجانب السياسي، أو التنظيمي، وكذلك ما يتعلق بالجانب الاجتماعي، لاسيّما حين ارتفعت الأصوات للمقاطعة الاجتماعية من جانب القيادة الرسمية.
أعتبرُ فترة الشام هي الأغنى والأكثر حميمية، وكان السماوي يسرّني ببعض أسراره وهواجسه، بما فيها قلقه أحياناً من بعض التصرفات والتداخلات والاستعداء المعلن والمستتر، وقد كان يهاتفه بين فترة وأخرى الشاعر الشعبي هاشم العقابي الذي كان مبتعثاً للدراسة في بريطانيا، حين كان يأتي إلى منزلي في المزّة لينتظر المكالمة، وأحياناً يتصل بي العقابي ليبلغني أنه سيهاتف السماوي في اليوم الفلاني، والسماوي كثير الاعتزاز بأصدقائه، على الرغم من صدماته من العديد منهم وتنكّرهم له، بل التحريض ضدّه أحياناً.
وقد اضطّر إلى مغادرة دمشق التي أحبها متوجهاً للسويد “لاجئاً”حيث المنفى البعيد والبارد، وكان دائم المقارنة بين الفترة التي عاشها في الجزائر وفترة عيشه في دمشق. وإذا كان قد تعلّق بدمشق، فإنه شعر بفضل السويد عليه وطلب دفنه في مدينة يتيبوري، وإذا كان يحلم في العودة إلى العراق، فإن حلمه قد تبدّد، خصوصاً بعد احتلالها، وقد كان آخر لقاء لي معه في لندن بصحبة الرفيق عدنان عباس، حيث وجدته مثقلاً أكثر من قبل بالهموم والمشاكل التي كنت أعرفها، خصوصاً خلال فترة الحصار والعدوان على العراق، ومحاولات استفزازه أو التعرّض له، فضلاً عن إن بعض ممن لا يعرفون قيمة الرجل ومنزلته ودوره، تجرأوا على الإساءة له وتوجيه شتى الاتهامات إليه.
كنتُ قد استذكرت معه بعض الأحداث بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958، وهنا وجدتها مناسبة أن أسأله لماذا قطع علاقته مع الحزب الشيوعي، على الرغم من إنه تعرّض بعد ذلك للكثير من التنكيل بصفته شيوعياً، ولاسيّما بعد انقلاب البعث الأول في العام 1963، حيث اعتقل وفصل من وظيفته، وكان جوابه إنه لم يكن يطيق بعض الانتهازيين الذين تصدّروا الواجهة بعد الثورة وحالة الغرور التي أصبنا بها وغياب العقلانية، وعندما قلت له أليست تلك نرجسية وفردانية السماوي أجابني وبتهكّمه وسخريته المعروفة، إنها ليست غريبة عني، ثم ضحكنا.
ولعلّ هذا الموقف يُحسب له بغض النظر عن الصواب والخطأ، فقد كان منسجماً مع نفسه، حيث كانت الثورة في أيام عرسها والكثير يتسابقون لكسب ود الحزب الشيوعي، وإذا به وهو الكادر المجرّب والمعروف يتركه ويبتعد عنه، على الرغم من جميع المحاولات لثنيه أو حتى لترضيته كما أخبرني، ولعلّ ذلك كان فضيلة العقل النقدي الذي يمتلكه شاكر السماوي وخصوصية المبدع.
في الغربة داهمته الأمراض، حتى كاد النور أن ينطفئ من عينيه، وهو الذي كان داعية تنوير محاولاً إنارة الطريق للناس في الحرية والعدالة الاجتماعية، فإلى شاكر السماوي لا نقول وداعاً، بل اعتذاراً، فقد كان سبّاقاً في معرفة اتجاه الريح حتى عندما يريد معاكستها، سواءً كان بالسلب أو بالإيجاب. ولنا عودة لشعره ونتاجاته.