شبكة بيروت للدعارة …فصل من جحيم سوري طويل …
تحطّ الحروب أوزارها ولو بعد جيل و قد يتصافح أقطابها والذين أشعلوها في الأمس القريب , فكأنما الرصاص قد عاد من الصدور إلى البنادق , …ويمضي الناجون لإعادة بناء ما تهدّم من منازلهم …ولكن , هل سيتمكّنون من ترميم أرواحهم و سقاية زهور الأمل بعد أن نهشتها و دهستها أحذية الوحوش البشرية.
لا يتضرّر من المحن والويلات و حملات الإبادة والتطهير على مرّ العصور إلاّ من لم يشارك فيها …وهم الأطفال والنساء كأضعف حلقاتها , ولا ينتفع منها إلاّ سماسرتها و تجّارها و نخّاسوها .
أميط اللثام مؤخرا في بيروت عن أفظع قضايا شبكات الدعارة وأكثرها بشاعة و ابتزازا و ” استثمارا ” في الأزمة السورية و ذلك عبر استدراج مجموعة من الفتيات و النساء الهاربات من جحيم المأساة الدائرة في بلادهن نحو حظيرة العبودية الجنسية تحت ذرائع كثيرة , أبسطها العمل كمدبّرات و عاملات في المنازل و المطاعم وتتمّ بتخطيط محكم من مشرفين و منفّذين و مسهّلين و متعاونين أبرزهم اللبنانيان “علي ” و “موريس “و “عماد” ” السوري الذي يتولّى عملية ” الاستدراج الميداني ” مثل ذاك الذي يساعد عادة في إخراج الطرائد من مخابئها تسهيلا لمهمّة سادته الصيادين.
دعونا نفتح قوسا و نتأمّل قليلا في “الإحالة ” المذهبية و الطائفية التي قد توحي بها أسماء العصابة , ألا تذكّرنا بأمراء الحرب اللبنانية ؟ ….لا يهم , سنغلق القوس , فالنخاسة و تجارة الرقيق ـ كالإرهاب ـ ليس لها مذهب ولا دين .
لقد كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية ـ فيما كشفت والحبل على الجرّار ـ عن هذه الشبكة التي تستعبد خمسة وسبعين امرأة و فتاة غالبيتهن من السوريات , إنه ليس مجرد رقم , بل ما يعادله من القصص الموغلة في الرعب و الوجع الإنساني و التي تستدعي دق طبول حرب لا هوادة فيها على هذه المافيا والعصابات العابرة للحدود و الضمائر و الأجيال ….نعم الأجيال التي سوف تأتي بعاهات وجروح لا تلتئم أبدا .
عادة ما يقع اختيار الضحية و استدراجها في مثل هذه الشبكات حسب مقاييس وعوامل بيئية و اقتصادية واجتماعية ونفسية , إضافة للمعاينات الجسدية الفيزيولوجية التي لا بد منها في صناعة الدعارة …. و غالبية ضحايا هذه الشبكة يطابقن ـ ولحظهم العاثر ـ جميع المعايير التي تعمل وفقها هذه الذئاب البشرية , فالفتيات اللاتي قدّر لهنّ الهروب والفكاك من شراك العصابة يتشابهن و يتشاركن في فاجعة الحرب التي قتلت المعيل وشرّدت الأسرة و هدّمت المنزل و أفقرت الجيوب و كسرت النفوس …حتى جعلت كل من بقيت منهنّ على قيد الحياة تتمسّك بقشّة الأمل والنجاة و تحتاج إلى صدر تشتكي له غربتها و أوجاعها , فكانت النتيجة أن جعلتها الأقدار تخطئ العنوان , تتوه في الطريق , أو تستكشف طريقا جديدة كما حصل مع “ليلى ذات النطاق الأحمر ” في القصة المعروفة .
كان أوّل ما تقوم به شبكة الدعارة في بيروت هو قطع حبال العودة وحرق سفن النجاة لدى ضحاياها عبر افتكاك وحجز الجوازات و الأوراق الثبوتية والهواتف الخليويّة , تماما كما يفعل عادة بالسجناء والأسرى والمخطوفين , وذلك استعدادا لتحويلهن إلى أرقام وسلع ثم تأتي مرحلة التهيئة و “التقليم ” استعدادا للعرض أمام الزبائن … ومن رفضت أو شقّت عصا الطاعة أو حاولت الهرب تنال جزاءها من “التأديب ” بمساعدة حرّاس و حتى سجّانات شرسات من بنات جنسها كزوجة أحد قادة هذه الشبكة , تقول “سيرينا ” 27سنة من محافظة ادلب “تعرفت على شاب (عماد) على أساس قصة حب وزواج ، أخبرني أننا سنعيش في لبنان وسنعمل معاً. عندها ، أعددت أوراقي وسافرت إليه وجعلني أتحدث إلى ” نور” التي قدّمت نفسها كإحدى صديقاته (اكتشفت بعدها أنها زوجته وإحدى الحارسات في الشبكة) وهي التي كانت قد شجعتني بدورها على المجيء إلى لبنان “.
لكنّ الدراما المرعبة هو كيفية تنفيذ هذا ” العقاب ” و توقيته , تقول ” سالي” احدى الناجيات “بعد خمسة عشر يوما ، لم أستطع التحمّل ، وقلت له أنني أريد أن أرحل ، وضعني على الكرسي ، وضربني بالكرباج ، ولم يتوقّف حتى قلت له ” إنني لا أريد الرحيل أبدا ” و عادة ما يكون الضرب بالكرباج على القدمين حتى لا يثير الأمر شكوك الزبون وإذا لم نعد قادرين على ” العمل” من جرّاء آلام الجلد يعطينا عطلة يومين ، و كثيرا ما نسأل من طرف الزبائن عن هذه الآثار و الكدمات فنبرّر ذلك بأننا قد وقعنا على الدرج مثلا ” .
لم تتوقّف أساليب الجشع إلى هذا الحد , بل أوغلت في الوحشية و إهانة الذات البشرية كتلك التي حملت من أحد الزبائن وتأخروا في إجهاضها لأنّها ” مطلوبة جدا ” من الزبائن , إلى أن وصلت الشهر الرابع فاضطرّوا عندئذ لإعطائها محلولا تتجرّعه ليفتّت الجنين في أحشائها بعد استشارة ” طبيب ” مختص يعمل معهم وبالتعاون مع “ممرّضة ” متمرّسة في عمليات الإجهاض التي تحدث لديهم باستمرار , كمركز “صيانة ” في مشروعهم الجهنمي …و تقول آخر الأخبار أنّ أجهزة الأمن قد عثرت أثناء المداهمة على رضيعة عمرها ثمانية أشهر قد ولدت بعد أن تأخرت عملية إجهاضها من رحم أمها على يد الطبيب و مساعدته ….ترى ما هو المصير الذي ينتظرها و ماذا يمكن أن تقوله يوما هذه الطفلة التي ستصبح فتاة ؟ إنها الدراما التي تتناسل وتفرّخ كل قصة آلاف
القصص.
هكذا كان يمارس هؤلاء الجلاّدون عبوديتهم المطلقة , مع الحرص الدائم والحفاظ على الهيئة التي يجب أن تكون عليها ” البضاعة البشرية ” ك “وسيلة إنتاج ” لا غنى عنها … و كي لا تصاب تجارته بالكساد…
تقول إحداهن ” كنت ممن لم يتمكن من الهرب ، وعندما قبض عليّ عماد ربطني في السرير ، وراح يجلدني ، لكنه لم يكثر من عدد الجلدات ؛ لأنه صادف أن كان ذلك عشيّة يوم سبت , أي ليلة الذروة في العمل والكسب لديه . تركني وهو يهدّد متوعّدا بأنه سيكمل ضربي نهار الاثنين “.
كل هذه التراجيديا المدمّرة كانت تدور رحاها في سراديب الرعب من كواليس ملهى ” شي موريس ” بمنطقة “جوني” اللبنانية , “موريس” الذي هو موقوف الآن لدى الأمن اللبناني , ألا يذكّرنا اسمه بخط ” موريس “الشهير , ذي التوتّر العالي و الذي أقامته فرنسا سنوات الاستعمار على الحدود الجزائرية التونسية كي تحاصر الثوار وتمنعهم من الهروب والتسلّل .
لم تكن شبكة بيروت إلاّ ” ظلالا ” ل “دعارات ” سياسية كثيرة , تنتعش من جثث الأبرياء و فصلا من جحيم مأساة المرأة في حالة الحرب عبر التاريخ , من نساء طروادة , وصولا إلى قريناتهن السوريات اللاتي تذكّرن بمآسي نساء البوسنة و غيرها من بؤر الأزمة التي تحاول أن تخفيها مؤامرات الصمت والتعامي .