كتب

شخصيات في مواجهة مواقف استثنائية في ‘كاتبة وكاتب’

تتجلى في المجموعة القصصية “كاتبة وكاتب” للكاتبة السوسرية فيولا رونر خبراتها العلمية حيث درست الأدب والتاريخ وعلم النفس وعملت في مجال تدريس القواعد النحوية والكتابة الإبداعية، حيث نرى عمق رؤيتها لشخصياتها وقبضها على تفاصيل الواقع الحياتي المحيط بأحداث قصصها، فنتعرف إلى أفراد كثيرين يشبهوننا ويعيشون حياة تشبه حياتنا.

 وهي تستخدم لغة شفافة كاشفة للملامح والأبعاد وعميقة الدلالات لايصال فكرتها حول ما ترصده من حيوات.

في قصة من قصص المجموعة التي ترجمها د.معتز المغاوري وصدرت عن دار العربي للنشر نتعرف إلى غريبين أحدها يحمل كلبًا ويسرع به، وأخرى لا تفعل سوى الحفر في عز الحر.

وفي قصة أخرى نرى امرأة تراقب ابنتها وهي تلد من بعيد، ونتسائل عن سبب بعدها هكذا؟ ثم نرى في قصة ثالثة امرأة تحب الكتابة لكنها لا تعرف، هل تكمل هذا الحلم، أم تسير وراء إغراء من نوع آخر؟ وأخوان، أخ وأخته يجلسان في سيارتهما يراقبان منزلًا ويتذكران ماضيهما ثم فتاة تأخذ القطار إلى موسكو هاربة من شيء لا تريد لأحد أن يكتشفه.

وفي قصة أخرى تقابل امرأة شاب يذكرها كثيرًا بوالدها لكن من هو حقًا؟ ثم نقرأ قصة أخرى عن امرأة هاجرت لبلد آخر وتحاول التأقلم مع ثقافة غريبة عليها لكن هل تنجح في هذا؟ ونسافر مع فتاة تحمل حقيبة على ظهرها وتتنقل من مكان إلى مكان وتحكي لنا عن كل ما يحدث معها في كل مكان توقفت فيه.

وأخيرًا، بيت في مزرعة به امرأة تعيش وحدها ورجل يعيش بعيدًا لكنه لا يخرج من ذكريات هذه المرأة، فنتساءل عن علاقة كل منهما بالآخر.

فيولا التي زارت القاهرة وأقامت بها ثلاثة أشهر أقامت خلالها أكثر من ندوة وتعاقدت مع دار العربي للنشر على ترجمة عدد من أعمالها، قدمت للترجمة العربية، حيث قالت “أكتب تلك الأسطر والأمطار تتساقط غزيرة من السماء على أوراق الأشجار أمام نافذة حجرة مكتبي، صوت قطرات الأمطار الرتيب يقتحم الحجرة عبر النافذة المفتوحة ورائحة الماء والنباتات والأرض تتدفق إلى داخل الحجرة أثناء إقامتي لثلاثة أشهر في القاهرة تساقط المطر مرة واحدة فقط”.

واضافت “أتذكر كيف كان الناس منزعجين آنذاك. ألغوا المواعيد وظلوا في المنازل ولم يتحدثوا سوى عن المطر على الرغم من ذلك، خرجت من المنزل ومشيت في الحي الذي أسكن فيه لكن الشوارع كانت تقريبًا خالية من البشر وحتى السيارات كانت قليلة. وفي السوبر ماركت على الناصية، انشغل الموظفون بتجفيف الأرض وتغطيتها بالكراتين الفارغة لكيلا ينزلق أحد، ساد ما يشبه حالة الطوارئ، بالنسبة لي كان كل هذا غير مألوف. فالمطر بالنسبة لي أكثر الأشياء اعتيادية في الحياة اليومية. أحيانًا يتساقط المطر في مدينة “زيورخ” في سويسرا حيث أعيش لأيام. ولا أحد يظل في المنزل لأنها تمطر، بل إننا نرتدي الأحذية المقاومة للماء ونستخدم المظلات ونمارس حياتنا المعتادة، لكن في القاهرة كان الوضع مختلفًا تمامًا”.

وأوضحت “تساقط المطر في قصة واحدة فقط من قصص هذا الكتاب وتحديدًا في قصة “كرات النار” تدور أحداث تلك القصة في أميركا حيث العواصف أحيانًا شديدة للغاية لدرجة أن الشوارع تصبح خلال دقائق أنهارًا جارفة وحركة المرور تتوقف على الفور. في قصة “كرات النار” يمثل المطر حدثًا غير عادي ـ كما كان في القاهرة تجلس الفتاة التي تروي القصة وأخاها “نات” في السيارة والمطر يتساقط بكثافة ويحجب عنهما رؤية ما يحدث خارج السيارة، لكن حجب الرؤية عما يحدث خارج السيارة يجبرهما على النظر داخلهما – وفي النهاية يدرك الأخَّان الموقف اليائس الذي هما فيه بعد وفاة والدتهما. وحين قل المطر، التفا بالسيارة وانطلقا في الاتجاه المعاكس”.

ورأت فيولا أن “المطر هنا موقف استثنائي، موقف يستطيع أن يغير الرؤية، الرؤية التي تفرض إدراك متغير وتفتح بهذا الطريق لإدراك متغير للذات وللآخر وللتحول في الحياة. وهذا النموذج يظهر تقريبًا في كل قصة من قصص الكتاب، بغض النظر عن الأماكن التي تتواجد فيها أبطال تلك القصص، سواء في أميركا، أستراليا، اسكتلندا، سويسرا أو في العالم الآخر حيث تدور أحداث قصة “سلسلة من الصور” دائمًا ما تجد شخصيات تلك القصص أنفسها في مواجهة موقف استثنائي، أمطار غزيرة غير معتادة، حرارة غير مألوفة، لقاء غير معتاد مع شخص، مواجهة الموت كأكثر الأشياء الخارجة عن المألوف التي يمكن أن نواجهها. ودائمًا ما يحدث تحول في حياة أبطال القصص أو على الأقل في الفرص المتاحة لهم.

وحول اقامتها في القاهرة قالت “أثناء إقامتي لثلاثة أشهر في القاهرة، لم أعايش حقيقة أن الأشياء المألوفة بالنسبة لي ـ مثل المطر ـ يمكن أن تصبح فجأة استثنائية، بل إنني واجهت كذلك باستمرار أشياءً جديدة غير مألوفة ومجهولة بالنسبة لي على سبيل المثال حركة المرور الكثيفة في الشوارع، والناس الكثيرة التي تسير على الرصيف بكثافة كبيرة لدرجة أن تجنب الاصطدام بهم يحتاج إلى تركيز كبير وكذلك روائح ووجبات غير معروفة، واجهت كذلك طريقة هادئة جديدة بالنسبة لي في التعامل مع الوقت وصعوبات الحياة اليومية لم أكن أعرفها حتى الآن. والتجربة الأكثر عمقًا كانت مع الفقر المدقع لكثير من الناس ونقص الإمكانيات. خلال ثلاثة أشهر في القاهرة تزعزعت رؤيتي لذاتي وللآخر، كأني أصبحت شخصية في إحدى قصصي. كأني أصبحت “إيرما”، “ميريام” أو “فيرا”. لم يعد بإمكاني الكتابة، لأني لم أعد متأكدة من نفسي. كنت قادرة فقط على مراقبة ما يحدث وإدراكه والإنصات له وتدوين الملاحظات، لقد تغيرت رؤيتي للعالم. كان عليّ أولًا أن أجد الموقف الجديد لذاتي الكاتبة. لقد كانت تجربة مربكة، وفي الوقت ذاته جيدة جدًا بالنسبة لكاتبة”.

وخاطبت فيولا القراء موضحة “لن تلاحظوا في هذا الكتاب أي شيء من التجارب المهمة التي مررت بها في القاهرة لأن الكتاب صدر قبل فترة إقامتي هناك. لكنني أتمنى أن تمروا أيضًا أثناء القراءة بتجربة شيء غير مألوف. وأتمنى كذلك أن تشعروا أثناء قراءة الكتاب بما شعرت به حين تساقط المطر في القاهرة”.

مقتطف من قصة “كرات النار

رسمت الأمطار نجومًا كبيرة مسطحة على الزجاج الأمامي للسيارة.. نجمة بجوار الأخرى، انسابت قطرات المطر قطرة بجوار الأخرى، لم يتفوه أحد منا بكلمة، سمعت مرة واحدة فقط صوت “نات” وهو يعد الثواني بين البرق والرعد بصوت منخفض، لكننا لا نخاف من البرق.

سحب “نات” يده اليمنى من على المقود ووضعها فوق يدي اليسرى، كانت يده مبللة ولزجة، كنت أتجمد من البرد، بينما “نات” يتصبب عرقًا، أدرت يدي ببطء وتخللت أصابعي أصابعه، ضغطت بيدي على يده برقة، وشعرت بـ”نات” يضغط يده في يدي بالقدر نفسه من الرقة، شعرت بقدر من التوتر يتسرب عبر أصابعنا.

قلت:

– عندما تنتهي العاصفة الرعدية سنتمكن من رؤية منزلها.

كررت الجملة:

– سنتمكن أخيرًا من رؤية المنزل.

لكن “نات” لم يرد.

بعد قليل مد يده ورسم بأصبعه معالم منزل على الزجاج الأمامي للسيارة، وقال:

– ها هو المنزل.

كان قد رسم منزلًا ريفيًا كبيرًا جميلًا ذا سقف واسع وبجواره مباشرة حظيرة، ورسم أمام المنزل كلابًا وقططًا وأبقارًا وحصانًا ذيله طويل للغاية.

قلت له:

– الحيوانات كلها تشبه الحيوانات في منزل “روبين” الريفي.

هز “نات” رأسه بالإيجاب في سعادة.

كانت أمي تقرأ لنا دائمًا من قصة “منزل “روبين” الريفي” عندما كنا صغارًا.

أغلقت فتحة النافذة الصغيرة بالباب المجاور لي، لأن الأمطار كانت تتدفق عبرها إلى داخل السيارة، وكان “نات” يريد أن يحافظ على السيارة حتى لا تبتل من الداخل، فقد صارت ملكًا لنا الآن.

بعدها سمعنا “ترولي فوكس”، الأغنية الأولى والخامسة من الألبوم الثاني، ثم أغنية “Never sleep too soon”ثلاث مرات متتالية. ظل صوت “ارنستين خان” محبوسًا داخل السيارة يتحرك بسرعة في اتجاه النوافذ المغطاه ببخار الماء وفي اتجاه الأمطار ومن هناك يعود إلى آذاننا، لكنني لم أقل: “نات، من فضلك اخفض صوت الموسيقى، فالصوت مرتفع للغاية”.

لم أقل شيئا، فقد كانت موسيقى والدتنا التي كانت تملأ سابقا شقتنا بأكملها. أغلقت عيني وفتحتهما مجددا، حركت قدميَّ المخدرتين من الجلوس طويلا، كانت قدماي عاريتين حتى الخاتم الصغير في إصبع قدمي الأوسط، ولم أنزع هذا الخاتم مطلقًا، لأني ظننت أن هذا من شأنه أن يجلب سوء الحظ.

مد “نات” يده ليلتقط حقيبة ظهره من المقعد الخلفي للسيارة، ثم بحث داخل الحقيبة طويلًا، وفي النهاية أخرج المنظار من الحقيبة ووضعه أمام عينيه ليجربه، ومسح الزجاج الأمامي للسيارة بأكمام الجاكت ونظر بالمنظار من خلاله.. لم يتحرك “نات”. اتبعت اتجاه نظره، لكنني لم أر سوى ضبابًا رمادي اللون لا يمكن الرؤية عبرَه وقطرات أمطار تمتزج على زجاج السيارة.

قلت له:

– “نات”، لا أرى شيئًا.

أنزل المنظار من على عينيه ببطء وتصرف للحظة كأنه لعبة، فأخذ يلقي المنظار من يد إلى أخرى ويقلبه ويغير مدى الرؤية دون أن ينظر عبر المنظار مرة أخرى. ربط حزام المنظار في عجلة القيادة ثم فكه مرة ثانية، ووضعه حول رقبته وجذبه بيديه الاثنتين كأنه يريد أن يخنق نفسه، ومد لسانه خارج فمه وأخذ يسعل، فصرخت فيه قائلة:

– “نات”، توقف عن فعل هذا!

عندئذ فك المنظار من حول رقبته ورماه بغضب في حجري.

تساءلت إذا كان ما نفعله هنا صحيحا، وتساءلت مرة أخرى إذا ما كانت زيارة السيدة أمرا صحيحا، ألم يكن من الأفضل أن نغادر؟

لمست ذراع “نات” وملست عليه، بهذه الطريقة فقط يسترد هدوءه من جديد، وبحثت عن يده، فأعطاني إياها، فحركت إصبع الإبهام ببطء على راحة يده، واقتفيت أثر خطوط الحياة في راحته بشكل متكرر.

لم يسمح لنا الممرضات والأطباء برؤية جسد والدتنا المتهالك، إذ قاموا بتغطيته بملاءة خفيفة حين ذهبنا لزيارتها في المستشفى، وسمحوا لنا فقط برؤية وجهها الذي ظل بلا إصابات، لكنه بدا كالقناع، فلم نجروء على لمسه.

حين قدمت الممرضات الرعاية الطبية لأمي، كان علينا مغادرة الحجرة، وعندما عدنا، بحثنا من جديد عن والدتنا في ثنايا الملاءة، حيث مسحت أيدينا على وديان وجبال وغابات وبحيرات. أحيانًا كانت والدتنا تظهر للحظة، عندئذ كانت تحاول أن تنطق أسماءنا ببطء وبلسان متثاقل مثل السكارى، ثم تبتلع ثنايا الملاءة أسماءنا مرة أخرى، فكنا نتعقب تلك الثنايا بأصابعنا، ومسحنا بأيدينا فوق الملاءة بحذر ورقة، وقد تمهلنا وتتبعنا نبرة صوت والدتنا، ثم هتفنا:

– أمي، أمي.

وعندئذ التقت أيدينا.

فتح “نات” عبوة حلوى “كرات النار”، والتي كنا نحتفظ بها في الدرج بين مقعدينا، ودائمًا ما كانت معنا. كان “نات” يستطيع أن يمضغ قطعتي حلوى مرة واحدة، وأثناء المضغ دائما ما يخرج هواء من فمه المفتوح، تلك الحركة كانت تجعله يشعر ببرودة في لسانه، لقد كانت حلوى “كرات النار” لها مفعول جيد ضد الإرهاق وضد أي شيء.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى