شعارات كاذبة يراد بها باطل
عندما تعطي التنظيمات والحركات السياسية الدينية الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها تحقيق مصالح خاصة بها من خلال بناء أطر حزبية فئوية، ثمّ عملاً سياسياً يومياً وصراعاتٍ لاحقة على السلطة والمناصب، وهذا ما فعلته الكثير من هذه التنظيمات مثل جماعة الإخوان المسلمين والحوثيين في اليمن، وغيرهم في بلداننا العربية، والذين يوجهون من الخارج، ويستهدفون السلطة، هذه الجماعات التي لا يهمها المجتمعات ولا تعترف بها، بل كل همها السلطة، ولهذا يطلقون دعاتهم ودعواتهم متهمين السلطة الحاكمة بكل شيء سيء في البلاد، وفي مواجهة هذا النوع من الدعاة مطلوب أسلوب أخر في الدعوة إلى مبادئ الدين الحنيف حول حسن التعامل والتسامح واحترام الآخر وحقوقه، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن الطائفية والتحزّب والمصالح الخاصة لجماعات وتنظيمات محددة.
الدين الإسلامي الحنيف يربط بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. والأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر.
الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، ومنها انطلقت هذه الرسالات للعالم كله، وهذا يؤكد واجبنا كأمة تجاه الآخرين، أن نتواصل معهم دائماً، كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء.
فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، وللأسف الشديد تظهر في مجتمعاتنا فئات متطرفة ومغلقة، تكفر الآخر، وتدعو إلى التفرقة والفئوية والتعصّب، وتكفر حتى من المسلمين من لا يتبعها.
كثيرون هم من يقرأون القرآن الكريم لكن ليس جميعهم يفقهون ما يقرأون فيه.. وكثيرون نراهم يرفعون شعارات دينية رنانة، بينما أعمالهم تناقض هذه الشعارات تماماً.
وتنتشر دعوات استهلاك الجهود والطاقات الفكرية في العالم الإسلامي عموماً بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيراتٍ كانت خاضعةً لظروف معينة في زمنٍ معيّن في مكانٍ محدّد، ولا تصلح بأي حال من الأحوال الآن في عصرنا الحديث، والإسلام دين لكل الأزمان والعصور، ودين لكل البشر، وليس فقط للعرب، ولا يمكن للدين أن ينتشر في بلد إذا جاء مناقضاً لطباع وعادات وتقاليد هذا البلد، ولهذا اختلفت المذاهب ونجح الإسلام في الوصول لمختلف أجناس العالم في الشرق والغرب، والآن يأتي من الدعاة من يدعوننا للرجوع للخلف لقرون مضت، معتبراً أن هذا هو الدين الحق.
لا ندري لماذا يركز أمثال هؤلاء الدعاة على أبواب العبادات فقط، ويتركوا أبواب المعاملات في الدين، والإسلام يعطينا أروع وأرقى الأمثلة في التعاملات مع مجتمعاتنا ومع المجتمعات الأخرى، وشعار التسامح والسلام مرفوع دائماً في التعاملات في الإسلام، ألم يقل الحديث النبوي الشريف إنّ «الدين هو المعاملة»؟.
ديننا الحنيف يحتوي على أفضل قواعد ومبادئ حقوق الإنسان، ويتضمن الشورى والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح، وواجبات أولي الأمر والحكّام وما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، كل هذه الأشياء موجودة في ديننا، فلماذا يفرض علينا البعض من المتطرفين والحزبيين دعاوى ومبادئ التعصب والتكفير والكراهية للأخر من غير المسلمين. ما تفعله هذه الجماعات والفرق السياسية التي ترفع شعارات دينية، إنما هو جريمة تاريخية تستهدف عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية وعن دورها العالمي، ويلعبون دوراً خطيراً في تجزئة المنطقة العربية وتفتيتها وإزالة هويّتها الثقافية العربية التي كرسها ودعمها الدين الإسلامي والقرآن الكريم..
لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الإسلام والعمل من أجل الأوطان، وكل منهما يخدم الآخر ويساهم في رسالته. وأيضاً لا تعارض بين مشاريع وطنية تستهدف تكامل وخير المنطقة لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع ديني بعيد عن التفرقة والسياسة يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.
المسلمون في أوروبا لا يجدون أي تناقض بين مضمون دينهم وبين الوحدة التي حدثت بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتحاد بين ولاياتها؟.
كيف يمكن أن يصان الدين وتُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟
قضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامة لا ترتبط بمنهج فكري محدّد.
والدين لا يتعارض مع هذه القضايا بل يدعمها، وشاهدنا كثيرا في حركات التحرر العربي في القرن الماضي دوراً كبيراً للدين وللمسجد والكنيسة معاً، وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل قضايا اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة، لكنها اتفقت في النهاية على حماية الوطن ووحدته واستقلاله.
الخلافات في القضايا الدينية هي خلافات فكرية محضة ولا يجوز إلحاق القضايا السياسية بطبيعة هذا الخلاف. ولا تناقض إطلاقاً للهُوية الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية. لا ضرر أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية لكن يجب الحفاظ على الثوابت الدينية وعلى المشترك في القضايا الوطنية والاجتماعية.
صحيفة البيان الأماراتية