شعر أدريان ميتشيل بصيرة وباصرة تتّصفان بروح الدعابة السوداء

 

يفتتح المترجم هاشم شفيق ترجمته لآخر أعمال أدريان ميتشيل (1947 – 2008) “قهوة زرقاء” مؤكدا أن أدريان أحد أكبر الشعراء الإنكليز البارزين لعقود خلتْ، فبالإضافة إلى كونه كاتبًا مسرحيًا وروائيًا وصحافيًا وكاتب نصوص للأطفال، هو أيضًا من الجيل ذاته الذي ينتمي إليه الشاعران الكبيران والمؤثران في الشعر الإنكليزي والعالمي تيد هيوز وفيليب لاركن.

ويشير إلى أنه نال تعليمه العالي في أكسفورد، ثمّ ترأس كرسي جمعية الشعر فيها، بعدها عمل في الصحيفة الإنكليزية الشهيرة “راية المساء” وكتب مقالات أدبية وسياسية وثقافية وانتشرت مقالاته، ومنها تلك المتعلقة بالموسيقى الشعبية في صحيفة “الديلي ميل” ذائعة الصيت في بريطانيا خاصةً. كما ألف أغانيَ ذات مضمون رؤيوي مختلف، هاجم فيها التغوّل الإمبريالي والحروب وأدان المجاعات والاضطهاد لحرية الرأي والفكر والمعتقد، إذ حملت أغانيه بصمة مضادّة لنهج الاحتلالات وقهر الشعوب الضعيفة، واستغلال شعوبها ومواردها وحضاراتها.

ويضيف شفيق في تقديمه لترجمة ديوان أدريان الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر “مشى أدريان في مسيرات مناهضة للحرب، وبشَّر بالسلام والسلم العالمي والاشتراكية، وكان صوته الإبداعي يعلو في كل مكان، ساعياً إلى التضامن الأممي مع الضعفاء والمأسورين والمضطهدين، من قبل القوى الكبرى من الكومبرودورات ورؤوس الأموال والبنوك والمصارف الدولية التي كانت كلها لا تسلم من قلمه الحاد والناقد للمسيرة الرأسمالية والإمبريالية والقوى الظالمة والجشعة حيثما حلّت.

ويلفت إلى أن أدريان تزوج من الممثلة سيليا هويت، وله أربعة أولاد (ابنتان وولدان) وله منهم تسعة أحفاد، حرضوه على الكتابة لهم، ولكن كتاباته كانت لكل أطفال العالم الفقراء والمهاجرين والمحرومين من وسائل الحياة اليومية البسيطة كالتعليم والسكن الآمن والعيش الكريم، حيث وقف بكل ما يمتلك من أدوات إبداعية إلى جانب هؤلاء الهشِّين والمهمَّشين والمُنكل بهم من قبل سادة الحروب وتجار الأسلحة في العالم.

من هنا يجد القارئ في شعر أدريان ميتشيل بساطة حادة، ولكنّها تتسم بالعمق المحمول على رؤية فنيّة نافذة، تستجلي حركة العالم والمواقف التي يزخر بها، لتجسِّدها حساسيّة مكينة قادرة على الارتقاء بكل تلك العوالم، حيث تتوّجها الملاحظة المتقصّية الشموليّة، تلك السابرة للواقع وخوافيه، عبر بصيرة وباصرة تتّصفان بروح الدعابة السوداء، والسخرية المريرة، من الحياة وملابساتها ذات الوقْع المؤسي بكل تجلياته في حياتنا الإنسانيّة.

ويؤكد شفيق أنّ هذه الصفات تكشف بجلاء أدريان عن ولائه وإخلاصه للتقاليد الشعبيّة؛ ذلك أنَّ قصائده في الغالب تحمل شحنة عاطفيّة، يمتزج فيها السياسي والجمالي وفق رؤية فنّيّة لاذعة، فله قصائد على سبيل المثال تتحدّث عن الأسلحة الكيميائية، وكوبا وفيتنام والعراق، وله قصائد تبحث مسائل الجوع والفقر، وأخرى تبحث عن مصائر سجناء الرأي والفكر والتعبير، وهناك مثيلاتها التي تدين الحركات العنصريّة، أنها تنطلق هكذا وامضة، متوهَّجة من عمق روح تطلّعات اليسار، ولهذا كانت تغنّى في التظاهرات والتجمّعات، احتجاجاً على القمع والاضطهاد والظلم والحروب.

ويرى أنه تحت سقف هذه الرؤية جاءت تسمية أدريان بمايكوفسكي البريطاني، لتمتّعه بالخاصيّة ذاتها التي كانت لدى الشاعر الروسي، مع فارق في الأسلوب، كما وصفه الشاعر البريطاني الكبير تيد هيوز قائلاً: “لأدريان ميتشيل العفويّة والبراءة والطهارة الناحية إلى الصدق الفنّي العميق، ذلك المتجلي في الإنتاج الإبداعي والجرأة في السياق الإيقاعي، وهو من بين كلّ الأصوات صوت مُرحّب به بشدّة، في الأوساط الأدبيّة. إن شعره سوف يبقى ينفذ إلى الدواخل ليدغدغها”.

وعنه قال الكاتب والمفكر الإنكليزي المعروف جون بيرغر: “لا أحد غيره يكتب مثله، لقد أصبح مؤكّدًا أكثر فأكثر أنّ منجزه الشعري ثابت وباقٍ، لا أحد غيره انطلق إلى تلك الأماكن والآفاق وارتادها بأشعاره الكاشفة”.

وقالت عنه الكاتبة أنجيلا كارتر: “كان كاتباً ممتعاً، أحبَّ الناس الفقراء وعائلته وأصدقاءه والحيوانات”.

ويلفت شفيق إلى أن آخر عمل شعري صدر له هو ” قهوة زرقاء” وآخر قصيدة كتبها قبل رحيله في أزمة قلبية في إحدى مستشفيات جنوب لندن كانت “إنها مهنتي الأدبية إلى الآن” وقد لاقت انتشاراً حال نشرها، ووجدت صدى للباحثين عن هدية في أيام أعياد الكريسماس، ولذا كانت تهدى كهدية مثلى للمحبين والأهل والأصدقاء. وله أيضًا “اخرجوا..  قلها بصوتٍ عالٍ”، ومختارات شعرية صدرت عام 8991 بعنوان “قلب على اليسار” منتخبة من أعماله الممتدّة على مدار عقود طويلة، وثمّة لهذا العنوان كما يلاحظ المُطَّلِع الحاذق والمتتبِّع اللبيب مدلوله الجمالي والفكري والفلسفي والفني، وقد قمت حال قراءتي لأشعاره باختيار المميّز والفريد، وكذلك المثير، القريب من المخيلة الجمالية للثقافة العربية وذائقة القارىء.

وحول المونولوج الدلائلي ومفردات الطبيعة في شعر أدريان يقول شفيق “ترينا قصيدة (المتسائل) ذلك الانزياح السيميائي، الناتج عن التجليات التي ستحدثها الرؤيا عبر التموجات اللغوية في النسق الحواري وأفقها التشكيلي في صيغة السؤال والجواب، أنه في الحقيقة جواب الحياة على المحنة الوجودية وزمنها المتبلور في صيغة الكينونة البشرية، حياة وموت، عشق وغياب، حب وفقدان، فرح ودموع، حيث الكل محكوم بهذه الثنائية. بيد أن أكثر ما يشيع في شعره مفردات الحياة وعناصرها الثرية، وهي تتساوق وتتناغم مع حياة الكائنات وتجلّيها المؤكد في المشهديات والتفاصيل والمرئيات التي نصادفها دائمًا، حيثما نكون كما يتضح ذلك في قصيدته “فَهم المطر”:

في الزاوية العليا

على اليمين

من حقل ديفون الجنوبي

يقف الحصان الأبيض العظيم

تحت مطر دافئ “.

هذا عدا عن تغلغل عناصر الطبيعة وهيكلتها في بعض قصائده، فالشعر الإنكليزي بطبيعته ميال إلى محاكاة الطبيعة الباهرة في الريف الإنكليزي، وتجسيد ذلك الجمال الحسي والمرئي في موتيفات شعرية حالمة ورومانطيقية كقصيدته تلك “إلى صديقي القديم جيرمي بروكس” التي فيها يفتتح مناخ القصيدة بالمطلع الآتي:

شمس أبريل

تُقبِّل التورُّد الواثب،

شمسُ أبريل

تداعبُ وريقات الأعشاب

على الجانب المائي

وثمة كرسي خشبيٌّ

يتراءى في المكان“.

ويختتم شفيق “لعلَّ قارىء أشعار أدريان ميتشيل التي تنقل للمرة الأولى إلى العربية في كتاب مستقل، يُفاجأ أثناء قراءته، وخصوصًا لناقل شعره إلى لغة أخرى، أنَّه أمام مهمّة ليست يسيرة، فللوهلة الأولى تكشف الأشعار عن سهولة ووضوح جليّين، ولكن حين يتوغّل المرء في متونها وهوامشها، وفي تضاعيفها الدقيقة، ومنحنياتها الوطيئة، يجد نفسه في دغل كثيف حافل بالتعاشيب والشروش والممرات النحيلة الملتوية، وهنا يتوجَّب عليه أن يكون حذرًا، ويتحرّك بخفة ودراية بين هذه الطرقات البهيرة، ولكن الصعبة، المعقدة والمتشابكة، والمومضة في الوقت عينه ببريق مدهش، لكأننا أمام مرآة خادعة، لها وجوه متعدّدة، تُغري النظر في التحديق إليها دون ملال، لما تحفل به من مفاجآت على صعيد الأداء اللغوي والفني، ومن ثَمَّ لجوئها إلى استخدام الكلمات الشائعة في السوق والشارع والمقهى، في المترو والقطارات التي تزدحم بالبشر، أو إفراطه في استعمال صيغٍ وتعابير نابية في قصيدته الشعرية، أو قطع السياق لولوجه في سياق آخر، غير مألوف عن السياق الذي كان فيه، بيد أنه في المطاف الأخير يبقى حريصًا على بنية القصيدة وجمالها وروحها وجوهرها الذي يستهدف القارىء، ليس هذا فحسب ما يميّز قصيدة الشاعر أدريان ميتشيل، بل هناك عوامل جمالية أخرى تنضاف إليها كتفنّنه في الوزن والقافية والإيقاعات الموسيقية الشعريّة، المستجيبة لموهبته الشعريّة الكبيرة”.

نماذج من قهوة زرقاء

نافذة مفتوحة

 

الحبُّ

هو تلك النافذة المفتوحة،

ذلك النسيم الذي نتنفَّسهُ

في غرفة النوم، عبر النافذة،

 

الحبُّ

هو شجرةُ دموعٍ شاهقةٍ

رؤيت في حقل نافذة،

 

الحبُّ

هو حرارة السماء الدامية

خلف سحابات الدموع البعيدة،

التائقة إلى الشمس،

 

الحبُّ

هو كيف نستلقي هنا

وننظرُ بتوق

إلى تحديقة نافذة مفتوحة.

 

استيقاظ في بعض الأحيان

عميقاً في مركز صدرها

تنمو أزهارٌ بلا أسماء

 

بأوراقها الصغيرة الملتفّة،

تويجاتها تستدير

على بورسلان شذريّ،

مثل صباح الخامس من أيّار،

 

أحياناً أستيقظ

أحياناً أنام،

وأحياناً أعمل الإثنين معاً

في مرّة واحدة،

 

غالباً أُحدّقُ في تلكما الزهرتين الزرقاوين،

لأراهما تحدّقان بي

بكلّ الحبّ

ولهذا لن أظمأ أبداً.

 

إلى طفولتي الساديّة

 

أيقظه هنا خوفٌ قديمٌ،

يرمي أحشائي بيضاءَ

وهي تغلي،

خوفٌ قديمٌ

يصرخُ في أُذني

رابطاً إيّاها

إلى الخِصى،

ثماني سنوات

سبعُ سنوات

ستّ سنوات

خمسُ سنوات

من الرّهاب القديم الذي أبكاني

لفترات طويلة.

 

همو

 

قد خيّطوا شفتيَّ

وجمّدوا دمي،

الخوفُ أخذ أُمّي بعيداً

وتركني في قبضة الخوف القديم.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى