شعوب مرتشية
خاطئ من ينزه الشعوب ويبرئها من الفساد، مستندا على مقولات تعبوية، تعميمية، وتعويمية. كم من ” روما تآمرت على قيصرها”، وكم من المجتمعات ورطت حكامها وسحبتهم إلى مستنقع المحاباة والتمييز والفساد مقابل صمتها.
نعم، ثمة ما يمكن تسميته بالشعوب المرتشية من طرف حكوماتها، خصوصا في بلدان العالم الثالث وبقية الأنظمة الفاسدة التي تستمر باستمرار منظومة الفساد كضامن وحيد لبقائها على قيد الحكم في ظل غياب دولة القانون، وحضور الإقطاع السياسي، والولاء الطائفي والعشائري والمناطقي.
صحيح أن الأدراج والسلالم ” تُشطف من الأعلى” كما يُقال، لكن المجتمعات هي القواعد التي تبنى على أساسها الدول وتقوم الحضارات، فالعدل أساس الملك والعمران كما جاء في أكثر من أثر، لكن الفساد ينخر هياكل البلدان من أسفلها فتنهار على حين غفلة، بعد أن كانت توحي بالتماسك والصلابة.
الفساد مثل العنصرية، وغيرها من الأمراض ذات المنشأ الاجتماعي، والتي تولد بما يشبه الفطرة أو الاستعداد النفسي، ثم تغذيها الثقافة السائدة أو تحد من انتشارها واستفحالها، ذلك أنها ترتبط بمنظومة أخلاقية تبدأ من خلية الأسرة كأول مؤسسة تربوية، وتتجاوزها نحو مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع.
لا يزال الفساد يمثل عائقاً أمام جهود التنمية في مختلف دول العالم كونه يستنزف ثروات الشعوب ومقدراتها ويعطل القانون ويحول دون تحقيق تنمية تسهم في تحسين الوضع المعيشي في المجتمعات ويعمل على تقويض مشروع بناء الدولة، كون الفساد من أهم العوامل الذي تحول الدول إلى دول فاشلة ويخلق بيئة حاضنة للإرهاب.
لنأخذ تونس على سبيل المثال، إذ أن هناك مثلث جهنمي تعاني منه البلاد في السنوات الأخيرة اسمه ” الإرهاب والتهريب والتهربّ الضريبي”، ذلك أن هذا التحالف الثلاثي يمثل سرطانا لا يمكن الانتصار عليه بسهولة في خضم عدم جدوى تفعيل القوانين الرادعة، فلا مصلحة لكل ضلع من هذه الأضلع في أن يخذل الآخر.. وهنا يمكن القول إن الفساد فضاء ملائم وحقل خصب لجميع الآفات الاجتماعية التي لا يمكن تحميل الدولة كافة مسؤولياتها عنها.
الفساد لا يمكن مقاومته بقوانين وقرارات حبيسة الحبر والأوراق بل هو حرب تخوضها الدول على جميع الجبهات، أولها المنظومات التربوية والأخلاقية التي يتحمل الفرد مسؤوليته فيها، ولا يلقي بها على عاتق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحتى الإعلامية في دورها المنوط إليها.
لا بد من العودة إلى المثل العامي في البلدان العربية، والذي يقول ” يا فرعون من فرعنك؟ فأجابه: ما لقيت من يصدني”، ذلك أن إلقاء اللوم على الحكومات أمر سهل، ويمكن أن يحتمي خلفه الفاسد والضحية على حد سواء، الراشي والمرتشي، الحاكم والمحكوم.. أما فكرة التصدي للفساد فمهمة تتطلب الشجاعة وإنكار الذات.. وهذه ـ وللأسف الشديد ـ بعيدة عن ثقافة مجتمعاتنا العاملة بمقولة ” اطعم الفم تستحي العين”.
الفساد في العالم العربي يجر كل الويلات، وعلى مختلف أصنافها، ذلك أنه مرض لا تنجح القوانين في ردعه على اعتبار أن الفاسد يجد ويوجد لنفسه منافذ حتى وإن كان في موقع المشرع أو السلطة التنفيذية ثم أنه يتغذى من سلوك الطمع والجشع لدى بسطاء الناس العاملين بمقولة ” أنا والطوفان من بعدي”.
السارق يتغلب دائما على من يحمل راية الإصلاح، هذه قاعدة مؤكدة بالتجربة والبرهان في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك البلدان ذات الأنظمة المتطورة، ذلك أن الفساد أوجد لنفسه آليات دفاع، وأساليب ترهيب وترغيب، ليس بوسع المنظومة القانونية أن تهزمها ما لم تكن الممانعة داخلية، تتعلق بثقافة مجتمع تشبع بقيم أخلاقية تمثل حائطا منيعا ضد الفساد.
ليس من باب المبالغة القول بأن شعوبا كثيرة تشجع حكوماتها على الفساد من حيث تقصد أو لا تقصد، ولعل أفضل مثال على ذلك، أساليب التهرب الضريبي، وأشكال أخرى من العصيان المدني، والمطالبة بتعويضات ضمن ذهنية المظلوميات، خصوصا في بلدان ما بات يعرف ب ” الربيع العربي”. ولعل الحالة التونسية تمثل نموذجا فاقعا لهذه المؤامرة ضد المال العام، وكأن الدولة هي عدو يجب الانتقام منه باستمرار عبر طرق ابتزاز رخيصة تمارس باسم ” المطالب الشعبية المشروعة”.
لقد أعمتنا الشعارات الفضفاضة، والخطابات الشعبوية عن حقيقة مفادها أن الشعوب ليست بريئة من منظومة الفساد، وذلك بطرق فيها الكثير من التورية ولي عنق الحقيقة باسم الديمقراطية والمطالب الشرعية كأن تجد جمعية تمارس الفساد بين أعضائها تحت شعار محاربة الفساد.