شـــعرية حنـــظلة (عباس بيضون)

عباس بيضون

هذا الرجل النحيل الذي تملأ ثيابه الرقع والذي يسير حافيا ويطبع العذاب والمهان قسماته ليس شخصا معيناً ولا ينتمي لجهة معينة ولا يحمل اسماً. انه الفقر والمهانة. قد يخطر لنا انه ابن المخيم وقد يخطر لنا انه العربي البائس، العربي الفقير، ولن نبتعد كثيراً إذا قلنا انه الإنسان الفقير المهان. انه نمط ليس إلا. خاصة إذا قابلناه بذلك الشخص الذي يظهر غالباً في الرسم سمينا مكرشاً كريهاً تعلو قسماته القسوة والاستهانة واللامبالاة. انه الغني وحين نقول الغني لا يعود له اسم ولا هوية ولا موطن. انه الغني، الإنسان الغني الجشع المستغل. انه نمط أيضاً، وما يقوله، وما يقوله الفقير هو كلام الفقير وكلام الغني، كلام المعوز وكلام المترف المنعم. الفقير هو أيضاً المتروك المهمل المقهور المستبد به والمستبد ليس الغني الطماع وحده ولكنه صاحب السلطة الأنيق المنعم، والعسكري الشرس. نحن هنا امام أنماط. هناك الشعب المغدور والغني الجشع، وصاحب السلطة المستبد، أي اننا امام لعبة انماط ورواية انماط. لم يرسم ناجي العلي أي كاريكاتور لشخص محدد، لم يرسم سياسياً واحداً او زعيما واحداً او شهيداً واحداً. كان هؤلاء في رسومه موجودين بكناياتهم الكبيرة العامة. الفقير، الغني، الحاكم، المستبد، الشهيد.
هناك أيضاً ذلك الشخص الذي لا نرى له وجها والذي نراه من الخلف برأسه الدائري عديم الملامح وقد غرق تقريباً بين كتفيه المرتفعين، بينما انعقدت يداه وراء ظهره. انه حنظلة. هذا الاسم الذي أعطاه ناجي له فكان بين شخصياته القابلة في تسلسلها لتكون أشرطة من الصور المتحركة. كان هذا الصبي الذي لا يدل على انه صبي إلا انه رُسم، وعلى الأقل رأسه، كما يَرسم الأطفال. كان الوحيد بين شخصيات ناجي الذي حمل إسماً وإن كان اسمه حنظلة لا يقل رمزية عن صاحبه بل كان اسمه نفسه كناية كبيرة. ألهم هذا الصبي، ألهم حنظلة، المسرحيين والشعراء وألهم جمهور ناجي العلي وصار علماً على فنه. والحق ان ابتكار حنظلة الذي لم يفارق رسوم ناجي العلي كان ادل على فن ناجي العلي بل كان ذروة في فنه. فحنظلة بخلاف الشخصيات الأولى يدير ظهره فلا يبدو له وجه، بل هو في المحصلة النهائية لرسوم ناجي بلا وجه، لكننا لا نزال مع ذلك، نفترض ان له وجهاً. هذا الوجه الذي لا نراه يتطلع إلى الامام، لا يرى لعبة الفقير والغني المستبد والمستبد به فحسب، لكنه يرى أبعد منهما. يرى ويسجل، لكنه أيضاً ينظر إلى غد لم يطلع بعد. ينظر إلى مستقبل لم يتشكل. انه يشهد على الحاضر لكنه أيضاً يستشرف المستقبل. انه ذاكرتنا، ذاكرة الآلام والمقاساة التي يعانيها الشعب فيما هو أيضاً معلق العينين بالمستقبل الذي لا بد آت، لذا لا نرى لحنظلة وجهاً. وجهه هو ابن هذا المستقبل لذا هو قيد تشكل مستمر. لذا هو وعد أكثر مما هو واقع. لا نعرف إلى أين تصل عيناه لكننا نفهم من وجوده أن الغد سيأتي وسيكون محاكمة شاملة لكل ما يحدث الآن، فحنظلة هو أيضاً شاهد يراقب ويسجل ويحفظ. وجوده يعني أيضاً ان معاناة الشعب لن تذهب هدراً، لن تمضي بدون حساب، سيكون المستقبل محكمة ماثلة للحاضر، سيكون دينونة شاملة لكل ما قاساه الشعب ولكل ما اقترفه الحكام والجشعون والمستبدون والأغنياء. أما من هو حنظلة ومن أين استعير ومن يمثل فإن من يعرف ناجي يعرف انه يسير رافعاً كتفيه مغرقاً رأسه بينهما، تماما مثل حنظلة.
كنت تلميذاً لناجي العلي الذي درّس الرسم في الكلية الجعفرية في صور وكان ناجي العلي الذي لم يكن بعد قد امتهن الكاريكاتور يعلق رسومه على لوح نصب في فناء المدرسة. بين هذه الرسوم اذكر بورتريه ذاتيا لناجي كان فيه، مثله مثل حنظلة، مرسوماً من الخلف وقد رفع كتفيه واغرق رأسه بينهما، من كل ذلك، ولا اعرف إلى أي درجة يهم ذلك وان كانت له دلالة فعلية، اقول ان حنظلة قد يكون ناجي نفسه. ناجي الذي يستتر في رسمته. انه رسام الكايكاتور الذي يحضر في الرسمة شاهداً ومستشرفاً، حاملاً في وقفته الجانبية والهامشية إلى حد كبير، عمل الذاكرة وحكم المستقبل. ليس حنظلة نمط. انه الضمير الذي يحاكم ويبشر. اسم حنظلة هو تقريباً وجهه. نعرف اسمه ولا نرى له وجهاً. انه أيضاً الرسام وقد تحول إلى وجه غير مرئي. غياب وجه حنظلة هو حضوره. فهذه الوجه هو تماماً ما ينتظرنا، هذا الوجه هو غدنا ودينونتنا. لطالما كانت مشية ناجي العلي الحقيقية مشيه من يحاول ان يخفي نفسه، لكأنه في حنظلة يحقق ما يجعله ليس شيئاً سوى كلمته، سوى نقاوته سوى إدانته، سوى داخله. لكأن رسمة حنظلة ذي الوجه غير المرئي هي رسمة هذا الداخل. لكأن هذا الوجه غير المرئي هو أيضاً الضمير والذاكرة والألم الاستشهادي والبراءة.
البورتريه المحور للشخصيات السياسية من أبرز مشاغل فنان الكاريكاتور، ففن الكاريكاتور الذي واكب نشوء الصحافة العربية واستعير من الصحافة العالمية كان يهتم، ايما اهتمام، بتشخيص السياسة في أهم صانعيها. كان هذا التشخيص يعكس مواكبة فنان الكاريكاتور للعبة السياسية وسعيه لأن يرى فيها حرتقة وأمزجة ومزايا أصحابها. كان رسامو الكاريكاتور في ذلك يكتبون في رسومهم سيراً سياسية. يشددون بذلك على فردية أهل السياسية ويبالغون في إبراز هذه الفردية التي تتجلى جيداً في اختلاف قسماتهم. لم يكن هدف ناجي العلي هذه السمات الفردية ولا السير الخاصة التي تنبع منها. لم تكن مخيلته نابعة من القصص التي تدور بين أربعة حيطان. كانت مخيلته تستلهم الخيال الشعبي الذي يدمج شخصيات الطبقة السياسية او غيرها، في نمط واحد ويشكل منها نماذج عامة. كان هدف ناجي العلي هو الملحمة الشعبية التي تخلق بالدرجة الأولى انماطاً. لقد استخرج شخصياته من هذه الملحمة ولعل حياته في المخيم وراء ذلك فهناك تبدو والكتلة الشعبية متماسه وهنا يسهل خلق النماذج، وهنا يمكن لحنظلة، ان يغدو شاهداً ومراقباً وأن يخفي وجهه وهو يراقب ويشهد. فالمكان ليس ملائماً لبروز صفات فردية، وغاية ما تسعى إليه هذه الصفات الفردية، التي هي بدرجة أولى الإحساس بالمفرط بالقهر والإهانة والشقاء، غاية ما تسعى إليه ان تخفي نفسها. هكذا يبدو الفرد في اختفائه، أكثر مما يبدو في حضوره. بيد ان هذه المخيلة الشعبية تملك ما يمكن ان يكون مخيلة الغريب. مخيلة العجيب، مخيلة سحرية وخلاقة ولاعبة وساخرة إلى ابعد حد. هكذا لا تمنع نمطية الأشخاص من غرابة الصورة ومفارقات الموقف وبعد المخيلة. هكذا نجد قدرة لا تبارى على التخييل واللعب بالمفارقات فهذا الحنظلة غائب حاضر بل هو حاضر في اختفائه. وها نحن في رسمة أخرى نجد أفواه المصطفين وقد تحولت إلى سحاب واحد طويل قابل للإغلاق، وها نحن نجد هذا التمثال الجصي وهو ينزف دماً حقيقياً، مخيلة كهذه تملك جذرا سيرياليا، بل انها تذكر كثيراً بالبلجيكي رينيه ماغريت الذي لا أظن ان ناجي يعرفه. من هنا تنبع مفارقات فن ناجي العلي: نمطية الأشخاص ورمزية حنظلة بل فرديته المتوارية. عمومية الفكرة وخصوصية الصورة، من هنا تنبع أيضاً شعرية فن العلي.
مع ذلك فإن شخصيات ناجي العلي النمطية مع حنظلة ليست جامدة، ان لها حياة تنتقل معها من رسمة إلى رسمة بل ان لها رواية تشبه إلى حد كبير تلك التي لشخصيات الصور المتحركة. البائس والغني والشرطي والشاهد يحضرون كما لو كانوا في موقف من حكاية متصلة، كما لو كانوا في مغامرة متجددة، والذين يشاهدون هذه الرسمات يألفونها لأنهم شاهدوها تتحرك وتتبدل، حركاتها ومواقفها، من رسمة إلى رسمة. لأنها شخصيات كشخصيات والت ديزني تكسب مع الوقت والتكرار في اجتماعها وتعاقبها حياة وذاكرة وتاريخاً، يمكننا ان نضيف ذلك إلى فن وشعرية ناجي العلي.

صحيفة السفير اللبنانية