شكسبير .. إسطورة الانبثاق المقدس
يعتبر أدب شكسبير، وخصوصاً نصوصه المسرحية التراجيدية البذرة الأولى لنشأة الأدب السيكولوجي في العالم، فكان المدرسة المتفردة التي انطلقت منها الآداب والفنون، والمذاهب الفلسفية في أوروبا التي كانت تهتم بمعالجة الهم الإنساني وإشكالية وجوده على هذه الأرض من خلال صراع التناقضات والثنائيات داخل النفس البشرية، فكانت أعماله الملهم الأول لأدب غوته ودستويفسكي وتشيخوف وفيكتور هوغو ودي موباسان وفرانز كافكا، كما أنها كانت نموذجا تحليلياً لمدرسة فرويد النفسية واهتمامها بالرموز والصور المختبئة في طبقات عميقة من اللاوعي الإنساني.
تكمن أهمية وعبقرية شكسبير أنه الابن النجيب لعصر النهضة الأوروبية في الأدب والفن، فأعماله صالحة لكل زمان ومكان، ولكل المجتمعات باختلاف ثقافافتها وتاريخها ومعتقداتها، فمن خلال اعتماد شكسبير على العواطف والأحاسيس الإنسانية النبيلة، كان يحاكي قوى الخير والفضائل في دواخلنا، والتي هي بالأصل وليدة النشأة الطبيعية السوية عند الإنسان.
إن عالم التناقضات الذي يلجه شكسبير داخل الإنسان عن طريق دوامة الجدليات والصراعات بين العواطف والغرائز والطموح والأهداف توضح لنا مصير الفرد المرتبط بشقائه أو سعادته في هذه الحياة، فمسرحيات “هاملت وعطيل والملك لير” هي تجليات واضحة للخطيئة المرتبطة بالحسد والغيرة والانتقام والجريمة وحب السلطة والمال والتي تؤدي إلى الشقاء والهلاك وفقدان الإنسان لإنسانيته وسموه الروحي.
يطرح شكسبير في معظم أعماله الإشكاليات التي تظل مفتوحة على أسئلة دون إجابات واضحة ومحددة، فحياته الأدبية مرًّت بعدة مراحل حتى بلغت عمقها السيكلوجي والميتافيزيقي، إن استحضار قوى ما وراء الطبيعة في مسرحيات شكسبير كالأشباح والشياطين، تبين لنا سلفا بأن أقدارنا مرهونة بفكرة غامضة وراء عالمنا المادي المحسوس، وهي فكرة قديمة قدم الإنسان الذي كان يلجأ لتفسير الظواهر الغامضة والمحيرة في الطبيعة بإحالتها إلى الخوارق والمعجزات وابتكار الآلهة.
ولد شكسبير في مدينة ستراتفورد البريطانية سنة 1564 وتربى فيها وكتب معظم أعماله المهمة بين عامي 1589 و1613 وكان يسمى بـ “شاعر الوطنية أو شاعر آفون الملحمي، فهو يصنف كأعظم كاتب في اللغة الانجليزية، ومن أعظم الأدباء والمسرحيين في العالم.
تتكون أعمال شكسبير من 38 مسرحية و158 سونيته وبعض القصائد والقصص الشعرية، وقد ترجمت مسرحياته وأعماله إلى كل اللغات الحية، ومما جاء في سيرة حياته أنه عاش سنوات من العزلة قبل موته منحته التأمل واليقظة الداخلية، هذه العزلة تمناها جميع العقلاء في عصره، وقيل أنه قضى بعض السنوات قبل أن توافيه المنية في مسقط رأسه “ستراتفورد”، لقد عاش شكسبير ومات دون أن ينتبه إليه العالم، ولم يذكره أحد ويشيد بأعماله إلا كتاب قليلون. ولم تظهر الاهتمامات بشكسبير وأعماله إلا بعد نصف قرن من وفاته.
توفي شكسبير بعد صراعه مع مرض الحمى التيفية، وقرع جرس موته في كنيسة ستراتفورد في 23 أبريل/نيسان من عام 1616، وهو نفس اليوم الذي ولد فيه قبل 53 سنة، وأصبح قبره في يومنا هذا مزاراً يؤمه الآلاف من المعجبين والمهتمين بشكسبير وأعماله، قامت العديد من الملتقيات والمؤتمرات الثقافية في العالم بإحياء ذكراه التي بقيت خالدة في أعماله، والمجسدة في الكثير من أفلام السينما والمسرح والفن التشكيلي.
شخصيات شكسبير مازالت حية وتعيش بيننا فقد ألهمت هذه الشخصيات مخيلة الشعراء والفنانين والفلاسفة، وفجرت تأملاتهم في خلق فكرة أساسها الصراع والتطور لفهم ذواتنا أولاً ولفك أسرار العالم الذي يطفو على سطح من الغرائب والتناقضات الغامضة.
رغم الغموض والإبهام الذي لفّ حياة شكسبير الشخصية ومعتقداته، وظاهرة عدم وجود شخص بهذا الاسم، وإن نصوصه كانت منسوبة لآخرين، لكنه يبقى ظاهرة استثنائية وغريبة، وأكاد أقول متمردة وضاجة بالأسئلة والصرخات الإنسانية المعذبة في هذا الوجود، إنها أسطورة الانبثاق المقدس للنفس البشرية، الفكرة التي أرهقتنا طويلا ًفي حلم طويل تفرعت متاهاته النازفة بالعتمة والضباب.
ميدل إيست أونلاين