‘شوق الدرويش’ تصور حقبة لم تتناولها الرواية العربية من قبل

“شوق الدرويش” رواية تاريخية ملحمية تتميز بسردها لعالم الحب والاستبداد والعبودية والثورة المهدية في السودان في القرن التاسع عشر.

تجسد الرواية رحلة العبد السوداني بخيت منديل من السودان إلى مصر ومع جيوش المهدي ثم السجن في بلاده وحياته وحياة المحبوبة الإغريقية ثيودورا التي تقع ضحية عنف الثورة المهدية.

تبدأ الرواية بسقوط الخرطوم وهزيمة جيش المهدي مما يعني حرية العبد بخيت منديل. تبدأ رحلة العبد، الذي أصبح محاربا في جيش المهدي ثم عاشقا للإغريقية ثيودورا، للثأر ممن قتلوا محبوبته عندما حاولت الهروب إلى مصر.

إنها رحلة عبر تاريخ عنيف في السودان وقصة حب مأساوية. والقصة التي يسردها زيادة للقاريء هي قصة حب وثأر تتجلى بين الماضي والحاضر، فتتداخل مشاهد من حياة بخيت منديل – من العبودية إلى الثورة المهدية والسجن – ورحلة ثيودورا من الاسكندرية إلى الخرطوم لتسرد قصة الحب والعبودية بتعدد أشكالهما. وفي نفس الوقت، تسرد الرواية تاريخ الثورة المهدية من وثائق عديدة.

يتميز النص بلغة شعرية تجسد العالم العنيف للثورة المهدية وتحدد القوى المتورطة في هذه الحركة. تعتمد الرواية في بنائها على لغز قصة حب وثأر العبد السوداني. يكشف زيادة عن دور الاستبداد والامبراطورية والدين والعنصرية، وذلك من خلال تاريخ الثورة المهدية والاستعمار الغربي، كما يشير الدكتور رشيد العناني:

“في تصويرها للدمار الذي سببته الانتفاضة المهدية، وهي حركة دينية متطرفة عنيفة، رواية شوق الدرويش بمثابة تجسيد قوي للمشهد الحالي في المنطقة حيث تعم الفوضى نتيجة للتطرف الديني. والرواية لا تفتقر في توضيح فساد ووحشية الحكومة فضلا عن نفاق الغرب المستعمر والعمل التبشيري في تهيئة الظروف لازدهار حركة المهدي. وهذا أيضا له صلة بالواقع الراهن في المنطقة. وعلى هذه الخلفية التاريخية تكشف الرواية بشكل عميق عن الحب والثأر والعبودية والحرية، العلاقة والمواجهة بين الشرق والغرب، الخيانة، الشهوة، النفاق الديني، والتطرف، والعنصرية. ولكن في ظل دراما العنف، والقسوة، والجيوش المحاربة، تنسج الرواية قصة حب بين نقيضين: عبدا أسود وامرأة أوروبية، وهي نفسها تحولت إلى رقيق في أعقاب الانتصار الأولي للمهدي. الاعتقاد في الحب بمثابة قوة بديلة للكراهية وقسوة التطرف الديني. الرواية تصور شخصيات متنوعة بمهارة وكتبت بلغة جميلة ودقيقة، وغالبا ما ترتفع إلى لغة شعرية وتأمل حزين.”

على مستوى السرد، يستلهم زيادة تراثا غنيا في سرد مأساة البطل. بالإضافة إلى النطاق الواسع لهذه الرواية التاريخية، يقوم بتضفير الحدث مع هذا التراث لينسج رواية متعددة المستويات.

وتتميز الرواية بلغة شعرية تقوم بتضفير تراث ثقافي وشعري، سوداني وصوفي ومسيحي وعربي، في لوحة واحدة. تستوحي الرواية ثقافات وحضارات الجنوب التي لعبت دورا هاما، بالإضاف إلى الاستعمار الغربي، في تاريخ السودان. الرواية تشكل علاقات ثقافات وحضارات الجنوب في علاقات جديدة.

تشير الدكتورة منى طلبة إلى أهمية هذا التراث: “شوق الدرويش أشبه بالملحمة التاريخية فهي أكثر تصريحا وتكثيفا وتوثيقا لواقعة غزو السودان في نهاية القرن التاسع عشر من قبل الإنجليز والمصريين والأتراك، وقيام الثورة المهدية الدينية السودانية لمواجهة هذا الغزو أو بالأحرى الكفار، ثورة اتخذت طابعا متطرفا دمويا وتشكلت بمقتضاها بؤرة الصراع على مستويات عدة: سياسية ودينية وعنصرية وإنسانية ما زالت أصداؤها تتردد في عالمنا الراهن. على هذه الخلفية التاريخية تدور في القلب من اللوحة السردية قصة البطل المأساوي بامتياز بخيت منديل العبد السوداني الأسود أحد أنصار الثورة المهدية الذي يعشق ثيودورا الفتاة اليونانية الإسكندرية التي رحلت إلى السودان بعد مقتل والدها في الإسكندرية لرعاية الجالية المسيحية منذرة نفسها للكنيسة، لكن ثيودورا تموت ضحية هذه الصراعات ويموت بخيت أيضا في النهاية من فرط وجده الصوفي لها وتعصبه الشرس للثأر ممن كانوا سببا في موتها.

أهم ما يميز النص هو هذا الثراء الملحمي الذي يسري بطول السرد لا على مستوى تعقيد شخصية البطل المأساوي فحسب بل أيضا على مستوى تعدد مناحي الخطاب اللغوية: إذ تتراوح على نحو مبهر وغني ما بين السرد والشعر والحوار والمونولوج والرسائل والمذكرات والأغاني والحكايات الشعبية والوثائق التاريخية والترانيم الصوفية والابتهالات الكنسية وآيات القرآن والتوراة والإنجيل وحتى الكتابة عن الكتابة. هذا التنوع الهائل لأنواع الخطاب يوازيه مبنى تاريخي لحقبة لم تتناولها الرواية العربية من قبل ولم يكشف عن بواطنه الخفية الفاعلة في تشعبها وخليطها الذي يعج بالحياة.

في موازاة لرائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، يكتب حمور زيادة قصة العشق في التاريخ، فالعشيقة هنا كهناك من لون آخر ودين آخر وطبقة أخرى، فيما يبدو رفضا مستمرا من قبل البطل الأسود لواقعه وعجزا – كسيرا ووحشيا في آن – عن معادلة الآخر.”

والرواية تمثل اتجاها جديدا في الأدب السوداني في تضفيرها لتاريخ الثورة المهدية، وتناول أبعاد العنصرية والعبودية وأشكال الحب، ومستويات من السرد والتوثيق.

في النهاية، يتحول حب البطل لشوقه للمحبوبة، ويثأر لها. يغزو الحب والثأر والتطرف والعبودية عالم الرواية. ويعبر الدكتور همفري ديفيز عن هذا العالم: “شوق الدرويش رواية تاريخية ملحمية تتناول لوحة متعددة الألوان وواسعة النطاق من الشخصيات والأحداث لترسم صورة لزمان ومكان آخر لمعظم القراء. قد يجد الجمهور الإنجليزي تشابها مثيرا للاهتمام بين استحضارها لثقافة متعددة الأوجه، بما فيها من ثقافة تم تدميرها وإعادة تشكيلها، والأحداث الراهنة.”

والرواية تكشف عن دور القوة كما تتشكل في وجود العنصرية. وتكشف عن علاقات الغرب والشرق في إطار الثقافات المتداخلة في السودان. الرواية تتمرد على سرد التاريخ الرسمي والخطاب المهيمن. ورغم أنها تكشف عن الهجرة والترحال والعبودية في القرن التاسع عشر، إلا أنها لها أصداء معاصرة.

تكشف الرواية عن قيم الحب والثورة والحرية، لأن الحب والعبودية بمثابة أفقين يتداخلان ويشكلان النص. وتشير د. شيرين أبو النجا إلى هذه العلاقات: “تنبع أهمية رواية شوق الدرويش من كونها تكشف تشابك علاقات القوى على المستويين الإقليمي والمحلي منذ اندلاع الثورة المهدية 1881 وحتى سقوط الخرطوم 1885. وبالرغم من أن السردية ترتكز على التاريخي إلا أنها تنجح في تخييل عالم روائي كامل، يموج بشخصيات تكاد تقترب من كونها نماذج في العشق والفساد والتواطؤ والجشع. شوق الدرويش ليست مجرد رواية عن الثورة المهدية كما قد يتصور البعض، بل هي الرواية المهمشة والمعتمة عن مسار ومصير الثورة المهدية. تقوض شوق الدرويش الرواية الرئيسية عن الثورة المهدية عبر تصوير الحدث من خلال العبد بخيت منديل، الذي يقع في حب ثيودورا ذات الأصل اليوناني.

تعيد قصة الحب بين العبد واليونانية التي كانت على وشك أن تكون راهبة التوازن النفسي إلى جو مشحون بالتعصب الديني والخلط المقيت بين الدين والسياسة، ذلك الخلط الذي يدير صراعنا الراهن في العالم العربي. تشكل قصة الحب المحرك الأساسي للسرد التاريخي، وتجيب بعد 48 عاما على مصطفى سعيد في (موسم الهجرة إلى الشمال) التي كتبها الطيب صالح، الأب الروحي للأدب السوداني. الحب لا يقتل، ولا يفرق، الحب يزيد من ثراء الهوية في حين أن الجشع للسلطة هو ما يشرذمها.”

وفي تناولها المجدد لأنواع من الخطاب في الثقافة السودانية، تستحضر الرواية الثقافات والحضارات المختلفة في أدب نجيب محفوظ.

يبدع زيادة روايته من تراث غني في محاولة الكشف عن جذور الأدب السوداني. والرواية تمثل اتجاها جديدا في الأدب السوداني في توثيقها لتاريخ الثورة المهدية، وتناول أبعاد العنصرية والعبودية وأشكال الحب، ومستويات من السرد. إنها ليست فقط قصة حب تتداخل في قصة الثورة والتطرف الديني والعبودية، لكنها أيضا تستوحي القهر بأشكاله في كل زمان وكل مكان.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى