شيء من تاريخ سوريا وحاضرها
لعبت سوريا منذ استقلالها دوراً مؤثراً في محيطها الإقليمي، بل وفي البلدان العربية كلها، وربما لعبت هذا الدور قبل الاستقلال أيضاً، وكان الشعب السوري دائماً قلقاً على مستقبله ودور بلده من جهة ومتماهياً مع القضايا العربية والبلدان العربية الأخرى. وكانت البورجوازية السورية سواء منها البورجوازية الحلبية أو الدمشقية، لها تطلعات وطنية كبيرة جداً وبعيدة المدى، وبهذه المناسبة كانت البورجوازية الحلبية عند انتصارها انتخابياً تنادي بالوحدة مع العراق، لأنها والأناضول سوقها الطبيعي، بينما كانت البورجوازية الدمشقية عندما تنتصر تنادي بامتدادات وتعاون مع بلدان الخليج وغيرها من البلدان العربية، إلا أن البورجوازيتين الحلبية والدمشقية كانتا تحلمان بإقامة صناعة وطنية وتحقيق نهضة صناعية تقليداً للنهضة الأوروبية. وبالفعل فقد صنّعت هاتان البورجوازيتان سوريا، أو على الأقل بدأتا بتصنيعها، ونفذتا برامج ضمان اجتماعي وبرامج تعليمية وخدمات للشعب السوري وتعاوناً مع البلدان العربية. وقليلون الذين يعرفون أن الطبابة المجانية تقرّرت في عهد حكم البورجوازية، وكذلك التعليم المجاني وإلغاء سمة الدخول (فيزا) للعرب، ونادت سورية بالوحدة العربية فضلاً عن التضامن العربي، وكان الخط الوطني وبناء الاقتصاد الوطني والتضامن العربي ضمن الأهداف الأساسية للحكام السوريين منذ الاستقلال.
دخل العسكر على ميدان اللعبة، فقام بانقلاب حسني الزعيم في 1949، ثم تتالت الانقلابات حتى العام 1954، كان بعضها بتحريض من الأجنبي واحتكاراته، وبعضها الآخر كان تمرداً وطنياً، إلى أن استقر الأمر في 1954 وتكرّس الحكم البرلماني وتابعت سوريا طريقها الوطني، فرفضت الدخول في «حلف بغداد» ووقفت بوجه مؤامراته وبوجه التهديدات التركية، ورسخت الديموقراطية والبرلمانية والدولة المدنية أو شبه المدنية، واحترام القانون والنظام، وحققت تطوراً علمياً وتعليمياً وصناعياً وزراعياً. وقبل هذا وذاك كادت المواطنة أن تكون المرجعية الرئيس للشعب السوري، وتراجعت أمامها المرجعيات الثانوية كالطائفية والعشائرية وغيرهما. وكان واضحاً أن سوريا تسير في الطريق الصحيح وستصل إلى تحقيق بناء دولة عصرية قومية متطورة.
طالبت الأحزاب السورية والتيارات السياسية والرأي العام بالوحدة السورية المصرية، وكل لأسباب مختلفة، منها النزوع القومي والوحدوي، وتهديد «حلف بغداد»، والعدوان التركي، والخوف من تولّي اليسار السلطة فيها. والمهم قامت الوحدة السورية المصرية على عجالة من دون أن تعتمد في القطرين السوري والمصري على، تيارات أو أحزاب سياسية تحكمها وتحميها ومن دون وضوح طبقي كافٍ لتعميد طبقة حاملة لهذه الوحدة ومدافعة عنها، فاندسّ في إدارتها وسياستها مَن اندسّ، وفُتح الباب لجهتين، الأولى هي أجهزة الأمن (ولم يكن في سوريا في ذلك الوقت أي جهاز أمني مدني) والثانية للانتهازيين والمتسلّقين والوصوليين الذين ينتهزون الفرص ليتولوا السلطة، وقد نجحوا نسبياً وقادوا البلاد، وأقنعوا قمة السلطة بأنهم حريصون على الوحدة وحماتها ويدركون المخاطر التي تواجهها. ثم حدث الانفصال الذي تخللته انقلابات عسكرية عدة إلى أن جاء حزب البعث وتولّى السلطة بشعارات مختلفة هذه المرّة، تؤكد على ضرورة الاشتراكية والوحدة العربية، فضلاً عن تحرير فلسطين وغير ذلك، وترافق مع تولي حزب البعث السلطة في العراق أيضاً، وبدأت بذلك مرحلة تولي الأحزاب القومية وأنظمة حكمها السلطة. وقد أقام حزب البعث في سوريا والعراق، لسوء الحظ، نظاماً سياسياً في كل من البلدين شمولياً متطرّفاً مستعجلاً، لم يدرك الحاجات المحلية للحرية والديموقراطية والاستقرار السياسي، والواقع العربي المعقّد الذي يحتاج لخبرات كبيرة لتطويره، والواقع الدولي شديد التعقيد أيضاً، فتحوّل النظام في البلدين، العراق وسوريا إلى نظام قريب من ديكتاتوري. وبرغم نياته الحسنة لم يدرك المصالح الحقيقية للناس وكيفية تحقيقها ولم يكسبا ثقة الشعب، وتحالفا مع الاتحاد السوفياتي لا لبناء الاشتراكية كما يجب أن تبنى، وإنما اصطفافاً في الصراع العالمي بين الرأسمالية والاشتراكية، وفي المحصلة فشل النظامان في كسب ثقة الناس وفي تحقيق ما يرغبان به ورسّخا التقاليد السلطوية وما يشبه النظام الديكتاتوري، وأسّسا منظمات مجتمع مدني عديدة لكنها مفرغة من محتواها. وابتعد الجيشان في البلدين عن المهنية وغرقا في السياسة، بعد أن جرت فيهما تصفيات عديدة وإعادة هيكلية، وبقي الأمر كذلك عشرات السنين، بل كان يزداد سوءاً وضعفاً.
بنت سوريا خلال عشرات السنين بعد الاستقلال صناعة وطنية ودربت كوادر ذات خبرات هامة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وتطوّر التعليم فيها تطوراً ملحوظاً، وانخفضت نسبة الأمية إلى النصف كما انخفض مَن هم تحت خط الفقر إلى نصف ما كانوا عليه أيضاً، وتولّت الدولة إيجاد فرص عمل لعشرات الآلاف من الناس، وربما حوّلت قسماً من القطاع العام الاقتصادي وغير الاقتصادي ليأخذ مصالح الناس بعين الاعتبار، وبالمقابل تحوّلت الدولة إلى دولة أمنية وأصبح لأجهزة الأمن الدور الهام في تسيير حياة الناس وفي التدخل في إدارة شؤون الدولة وفي التنمية والتوظيف. وصدرت قوانين تمنع إحالة عناصر الأمن إلى المحاكمة إذا ارتكبوا جريمة إلا بموافقة وزير الدفاع، وتراجعت مرجعية المواطنة وتقدّمت المرجعيات الثانوية كالطائفية والإقليمية والعشائرية وغيرها، ولم يعد القانون مطبقاً ومحترماً، ولا حقوق الإنسان ولا معايير الدولة الحديثة كالحرية والديموقراطية، والأهم من هذا كله تمّ تجاهل فصل السلطات كلياً، فضعفت إدارة الدولة والقيم الإدارية بشكل عام، وتمّ إيجاد شروط موضوعية ليتحول الناس إلى انتهازيين ومخادعين وعمّ الفساد، ونشأت طبقة من الأغنياء الجدد الذين زادوا الفساد فساداً ليزيد غناهم، ودُمّرت الطبقة الوسطى وهي عماد تطور المجتمعات في كل مجال.
وبعد سنوات خمس من الانتفاضة ملأ المسلحون مساحة البلاد وصار عدد فصائلهم عشرات الفصائل المسلحة، وعلى هامش هذا التسليح قامت فئات مسلحة أخرى لا علاقة لها بالسياسة وإنما بالسلب والنهب والابتزاز والخطف. ولم يعد السوريون يبحثون عن بناء وطن أو تحقيق تنمية أو تطوير البلاد بقدر بحثهم عن وقف إطلاق النار على أمل أن يقف معه قتل الناس، وصارت آمال السوريين لا تتعدى تأمين لقمة العيش ومواجهة البرد في الشتاء والحر في الصيف، أي أنهم يركضون، ولكن الخبز واللباس والصحة والتعليم تركض أمامهم وأسرع منهم. وتقول المؤسسات الدولية المختصة إن سوريا بحاجة إلى 150 مليار دولار لإعادة البناء، وأظنّ أن هذا الرقم متواضع لأن أولئك الذين قدروه لا يعرفون حقيقة ما جرى في سوريا، وعلى أي حال فمن أين للشعب السوري أو للنظام المقبل مهما كان نوعه، أن يتدبّر هذا المبلغ بدون أن يرهن مستقبل سوريا لدى الآخرين؟
صحيفة السفير اللبنانية