شيوخ وأسلحة
طرق الأمس، وسيارات الغد، وسرعة المستقبل… أسباب حوادث اليوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعيداً عن علم الاجتماع، والأنتروبولوحيا…أنا بطبعي لا أحب مجتمعاً شاباً يحكمه عجائز!
ويعني ذلك، فيما يعنيه، أن المجتمعات الخائفة، القديمة والرعوية، هي أول من أنتج المفارقة.
فالقديم حكيم، والشيخ محنك، والكهولة بطولة، والزمن أستاذ.
…وأيضاً في مثل هذه المجتمعات يسود الصمت، فلا أحد يتكلم إلا إذا طلب إليه ذلك. ففي مجمع
الكرادلة تسود التراتبية والإصغاء الحفظي والطاعة.
وأنا مثل غيري من الملايين في هذا العالم، كنت في جيش الملايين مجنداً للأفكار الواعدة بمستقبل
البشرية ، في العدالة والاشتراكية، وكان قائد هذا الأمل هو الاتحاد السوفييتي. ولم يكن ممكناً التفكير
بأن “الأمل هو أحياناً مسودة اليأس” إذا حدق المرء جيداً بالعيوب، واكتشف دودة الشجرة، وانزياح
الواقع عن الفكرة والدعاية.
كنت أقول أحياناً: لماذا لا يخرّف القادة؟ ألا يخرّفون حقاً؟
كنت أرى “بريجنييف” مثلما يرى تلميذ أستاذه ، بسحّاب مفتوح ، ولا يجرؤ أحد على القول بأن آثار التبول اللإرادي واضحة…أيضاَ.
قيل لي إن هذا الذي تراه لا يخرف، ولا يهرم… وخاصة في عيد العمال،حيث يظل واقفاً لساعات رافعاً يده بالتحية لصفوف البروليتاريا…فيما هوجالس على كرسي ،وأن يده المرفوعة ،التي لا تكلّ ولا تتعب ، إنما تعمل على البطارية.
ثم جاء اليوم الحاسم… وفي الحقيقة، هذا اليوم هو السنوات الحاسمة تجمعت في يوم. حيث اقتحم الناس مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في موسكو، ولم يدافع عنه أحدٌ من الستة ملايين عضو ببطاقة العضو العامل في الحزب .
ثم جاء الفكر، أو التفكير الحاسم، عندما أعلن غورباتشوف، من ضمن ما أعلن وكأنه تذكير بالبديهيات: “نحن نملك من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير البشرية على هذا الكوكب ست مرات. وتساءل بابتسامته اللطيفة: لماذا ست مرات، إذا كانت المرة الأولى كافية؟”
وكان الرئيس كينيدي، منذ الخمسينات قد أعلن: إنني سأجعل الاتحاد السوفييتي يموت من البرد والجوع، ووسيلتي إلى ذلك شيء بسيط: “سباق التسلح”.
اللجنة المركزية والمكتب السياسي لم يردوا بتجنب فخ سباق التسلح وبعدم صرف الروبلات على صناعة سلاح تدمير الكرة الأرضية ست مرات، بل “سنكتفي باجباركم على العد للمليون قبل أن تخطىء طائرة أمريكية أو صارخ نووي بالتحليق في سماء موسكو.
كان الرد: سنشعل القسم الفقير من الكرة الأرضية تحت أقدامكم: حركات تحرر وطني، ثورات، بؤر ثورية، وبروليتاريا وزعماء سود وبيض وصفر، ومن كل الأشكال التي صنعها التذمر والفقر وانعدام الامل….وتسلح ايضا .
مرت العقود والسنوات.
كان هناك ثمة انتصارات لشعوب بمساعدة الاتحاد السوفييتي. وجاء معظمها استجابة للتطورالبسيط: صارت ـ مثلاً ـ المستعمرات مكلفة، ومن غير المجدي للمستعمرين البحث المحموم عن مناجم فارغة (أفرغت) وغابات ميتة (قطعت) وشعوب تأكل أثداءها …فترهلت.
أما في الشرق الأوسط، فكان الرهان على نشطاء القومية العربية، والشيوعية المحلية يشبه اللعب في كازينو:
تربح وتخسر. ولكنك تخرج صباحاً بجيوب فارغة. لقد حصد السوفييت ،عندنا ، هزائم لهم مثلما لنا نحن، حتى هذه اللحظة، نعيش حصادنا المهزوم الذي تحول إلى كارثة الكوارث لاحقا : الحروب.
مرت العقود والسنوات… فجاء الجيل الجديد إلى روسيا… من روسيا، ومن الاتحاد القديم. من الحزب القديم وال (ك.ج.ب) القديم. ولكن بتلك الروح التي تعرف بأن هذا العصر لا يمكن أن يرحب، مرة أخرى، ولأي سبب بإعادة إنتاج الاستبداد، لا بحجة إبقاء الزبدة والفودكا على سعرهما طوال 50 عاماً ولا بحجة الخطر الداهم لامبريالية متوحشة…”فالحرية أغلى من الخبز” وسيجوع بشر كثيرون في منعطفات التغيير… ولكن بعد زمن العمل والإبداع والنزاهة… سيمشي في أنفاق المترو في موسكو، قطار آخر…
قطار آتٍ من الماضي، ولكنه ذاهب إلى… المستقبل.
………………………….
قبل بضعة سنوات، وفي مزاد علني لبيع لوحات المشاهير من الفنانين والسياسيين ،تنظمه بلدية بيترسبورغ، جرى شراء لوحة للرئيس بوتين (كان رئيس وزراء آنذاك) بمبلغ مليون دولار. وكذلك جرى شراء لوحة للرئيس ميدفيديف (كان رئيساً آنذاك) بمليون دولار…
هذا دلني على أنني كنت على صواب حين أبديت رأيي في الشيوخ.
يقول ماركس:
“ثمة أشياء تبقى، ليس بالرغم عن التاريخ، بل من خلال التاريخ… وبفضله”.