صحافة لزمن الانترنت ؟
عندما خرج «ويكيليكس» من قمقم الوثائق التي سرّبتها الجنديّة وخبيرة الكومبيوتر تشيلسي مانينغ، ارتفع صوت جوليان آسانج بمقولة أنه يصنع صحافة لزمن الإنترنت. وحينها، رأت بعض وسائل الإعلام (كمجلة «كورييه إنترناسيونال») أنّ الصحافة هي الرابح الوحيد من التسريبات. دخلت الصحافة إلى عاصفة التسريبات بقدميها وبإرادتها. صحيح أنها أخرجت مارداً من قمقم التسريبات التي عملت على نشرها وترويجها، لكن الأرجح أن الـ»مارد» لم يصبح صحافة من نوع جديد.
وفي عام 2010، أوردت صحيفة «لوموند» الفرنسية أنّ «ويكيليكس» لا ينشر وثائقه عن الديبلوماسية الأميركيّة، من دون موافقة 5 صحف تتولّى نشرها، هي «نيويورك تايمز»، «دير شبيغل»، «غارديان»، «إل باييس» و»لوموند». وجنّدت الصحف قرابة 120 صحافياً لتحليل هذه الوثائق. وحينئذ، أوضحت سيلفي كوفمان (كانت مديرة التحرير في «لوموند») أن الصحف الخمس تبادلت فيضاً من المعلومات والتحليلات والخبرات، عبر اتفاقها على برنامج لنشر الوثائق بطرق مختلفة. واتّفقت الصحف على طريقة النشر إلكترونياً لتلك الوثائق، تشمل إخفاء بعض الأسماء والمعطيات المتصلة بأمن الأشخاص. وشدّدت كوفمان على أن «ويكيليكس» قدم وثائقه مجاناً، مؤكّدة أن الصحف لم تشك لحظة بمصداقية الموقع.
وصدرت تعليقات مماثلة من مارسيل روزبنباخ في «دير شبيغل» الألمانيّة. وأوضح روزنباخ أنّ الصحف تشاورت بكثافة مع الحكومات المعنيّة بما تتضمنه وثائق «ويكيليكس».
في المقابل، لم يظهر «ويكيليكس» اهتماماً بطريقة نشر وثائقه! وحينئذ، جنّدت فضائية عربية طواقم من موظفيها ليشاركوا في تحليل وثائق «ويكيليكس.
برؤية استرجاعيّة، بدا «ويكيليكس» في 2010 كأنه بصدد عمل صحافي أساسي (بمعنى المشاركة في صناعة الحدث) عندما طالب باستقالة وزيرة الخارجية الأميركيّة آنذاك هيلاري كلينتون، بدعوى أن إحدى الوثائق تظهر أنها «طلبت» من موظفيها التجسس على ديبلوماسيين كوريين شماليين في الأمم المتحدة!
اهتزاز حدود «السيادة»
لنعد إلى أصل المسألة، ولنتذكر طريقة حصول «ويكيليكس» فعلياً على الوثائق. لم يكن أنّها القدرة التقنيّة العالية لـ»الهاكر» المتمرّس جوليان آسانج، وفرق الـ»هاكرز» التي تؤازره. لم يكن الأمر أيضاً أن مجموعة «هاكرز» اخترقت الأمن الرقمي المتقدّم للشبكات الرسميّة الأميركيّة، خصوصاً المتصلة مع البنتاغون.
ببساطة، شكّلت خبيرة المعلوماتيّة تشيلسي مانينغ، رأس جسر في اختراق معلوماتي، وفق ما صرّح به الـ»هاكر» أدريان آلامو، استخدمه الأسترالي آسانج للوصول إلى الوثائق كلها. هل مثّلت مانينغ حالاً غير متوقّعة من الاختراق الداخلي لـ شبكة «سيبرن» SIPRN («سيكريت إنترنت بروتوكول راوتر نيتوورك» Secret Internet Protocol Router Network) العسكريّة، أم أن المسألة فيها بعد لم يظهر لحد الآن؟
تبرّر الأسئلة نفسها، ليس انطلاقاً من عقلية المؤامرة، بل من العمل الاستراتيجي الكثيف للولايات المتحدة في مجال الأمن الاستراتيجي للشبكات، بما فيها الإنترنت، خصوصاً الشبكات الحكومية المدنية، إضافة إلى شبكاتها العسكريّة.
ربما كان مفهوماً أكثر أن تخترق الصين، التي تمتلك جيشاً خاصاً للمعلوماتية تدعمه الجامعات والشركات والمجموعات الخاصة والشخصية، بعض نقاط في الشبكات الأميركية، أما أن يحصل ذلك على أيدي من يفترض أساساً أنهم هواة، فذلك ما يثير أكثر من سؤال، ولا يكفي ما فعلته مانينغ لإعطاء إجابات شافية.
وأياً كانت الإجابة، نجح «ويكيليكس» في اختراق مفهوم السيادة للدولة على الجبهة الإلكترونيّة. ومنذ مدّة، باتت السيادة الإلكترونيّة مفهوماً مكرّساً في كثير من الأوساط الاستراتيجيّة والسياسيّة.
وقبل سنوات عدّة، في خضم الاختراقات المتوالية لـ«ويكيليكس»، عانت إيران من وطأة الواقع الافتراضي للإنترنت، عندما خرج فيروس إلكتروني من قمقم العالم الافتراضي، ليجتاح أجهزة الطرد المركزي في مفاعلاتها النووية. وبعد طول عناد حينئذٍ، اعترف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بذلك الاجتياح. وسرعان ما نسبه خبراء إلى فيروس «ستاكس نت» الشهير الذي يروج أنه من صنع اختصاصيّين أميركيين في اختراق الشبكات الإلكترونيّة.
وبعد فترة من نشر «ويكيليكس» وثائق المجنّدة مانينغ، أعلنت وزارة الأمن العام الصينيّة، أنها اعتقلت ما يزيد على 460 من قراصنة الإنترنت، موضحة أن ذلك لا ينفي إمكان حدوث اختراقات على نُظُم الكومبيوتر في البلاد! وبيّنت الوزارة أنها صدّت 180 هجوماً إلكترونياً على شبكة الإنترنت في بلاد «العم ماو».
وحينئذٍ، راج أن تلك الضربة تتصل بموقع «ويكيليكس»، خصوصاً أن الموقع «استبقها» بنشر رسالة زعم فيها مصدر صيني لم يكشف عن اسمه أن المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني أدار عملية تسلّل لنُظُم الكومبيوتر في شركة «غوغل»، في إطار حملة منظّمة أدارها خبراء على علاقة مع الحكومة الصينيّة. ووقتئذٍ، رفضت الحكومة تلك المزاعم رسمياً، طالبة من الحكومة الأميركية التثبّت من تلك المعطيات!
صحيفة الحياة اللندنية