تحليلات سياسيةسلايد

صعود آسيا.. وتأثيره في “قلعة الغرب” المتقدمة

 بالنسبة إلى أوروبا، سنمثل (إسرائيل) جزءاً من السد أمام آسيا، وسنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية، وسنبقى كدولة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا… ستكون دولتنا قلعة متقدمة لأوروبا في مواجهة آسيا“.

ثيودور هرتزل –كتاب “دولة اليهود

 

يتحدث الكاتب عبد الوهاب المسيري في كتابه “تاريخ الفكر الصهيوني جذوره ومساره وأزمته” عن رؤية الزعيم الصهيوني ماكس نوردو للدولة الصهيونية، التي قال إنها ستكون “بلداً” تحت وصاية بريطانيا العظمى، بحيث سيقف اليهود “حراساً على طول الطريق الذي تحف به المخاطر”، والذي يمتد عبر الشرقين الأدنى والأوسط حتى حدود الهند.

العقلية الصهيونية فهمت حتى في مرحلة ما قبل الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين أن صعود آسيا يشكّل خطراً على الغرب، ليس لأن الدول الآسيوية والشرق عامة ستوجّه قوتها العسكرية والسياسية ضمن مسار الهيمنة على موارد الغرب، بل لأنها ستحاول الخروج من هيمنة الغرب على موارده، مما سيضعفه. وهنا، تصبح “إسرائيل” كقوة غربية في الشرق حالة دفاع عن الغرب ضمن سياقه الاستعماري.

لذلك، إن كلمة الرئيس الأميركي جو بايدن في استقبال رئيس الاحتلال الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ وقوله: “لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراعها” (وهذا ما حصل فعلاً: لقد اخترعوها)، لا تعبّر عن حاجة الغرب إلى “إسرائيل” وحاجتها إليه فحسب، بل عن كون “إسرائيل” أيضاً ضمن موقعها الجيوسياسي تشكّل تعبيراً عن الصراع بين الشرق والغرب، ما يعني أيضاً أن أزمات الغرب، مهما كان شكلها في السياسة والأمن والعسكر والاقتصاد، تؤثر بشكلٍ مباشر في “إسرائيل” ضمن الموقع الذي اختاره الغرب لها.

ويستعرض الكاتب حسني الجرار في كتابه “نكبة فلسطين عام 1948-1947: مؤامرات وتضحيات”، مقاربة الزعيم الصهيوني ناحوم غولدمان، وهو مؤسِّس “المؤتمر اليهودي العالمي”، الذي أشار إلى أنَّ تأسيس “الدولة الصهيونية” لن يكون لاعتبارات دينية أو اقتصادية، بل لأن فلسطين “هي ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم”.

لم يخض الاحتلال الإسرائيلي حروبه على مدى العقود الثمانية الماضية بعيداً من مصلحة الغرب في مواجهة الشرق؛ من النكبة عام 1948، إلى العدوان الثلاثي عام 1956، وحربي 1967 و1973، وصولاً إلى لبنان بين عامي 1982 و2000 وعدوان 2006. في جميع تلك المراحل، كانت “إسرائيل” تمثل مصالح الدول الغربية، إمّا بوجه التعاون العربي مع الاتحاد السوفياتي، وإما دفاعاً عن مصالح غربية مهمة ومؤثرة (عدوان 1956 الثلاثي بسبب تأميم قناة السويس)، وإما في مواجهة حركات تحرر تهدد الوجود الأميركي المهيمِن في المنطقة.

مقاربة تلك المراحل لا تقوم على وجود قوة متحدة في الشرق وآسيا عموماً ضد “إسرائيل”، بل على أنَّ وجود تلك القوة بالمقدار الذي تكون فيه قادرة عن الدفاع عن مصالحها يهدد مصالح الغرب. وبطبيعة الحال، يهدد “إسرائيل”. لذا، البحث في أي أزمة تعانيها “إسرائيل” يتطلب فهم طبيعة العلاقة بينها وبين المسار الذي يربط صعود آسيا بتراجع الغرب.

قرار غربي

يجب الانطلاق من حقيقة ثابتة تاريخياً، هي أنَّ محاولات الاحتلال الإسرائيلي إحداث نوع من التوازن في العلاقة بين الغرب والشرق أو إظهاره أو التعاون مع دول آسيا بما يخالف المصالح الغربية، كانت تصطدم بجدار اعتماد “إسرائيل” الكلي في الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية على الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

هناك من يحاجج على سبيل المثال بأنَّ “إسرائيل” تأخذ موقفاً متوازناً في الحرب الأوكرانية بعيداً من موقف الغرب. في هذه المسألة، إن التموضع الإسرائيلي، وإن كان يميل في اتجاه أوكرانيا، يعبر بصورته الحالية عن رغبة أميركية ترى في هذا الموقف مراعاة لمصلحة إسرائيلية – غربية بعدم توتير الأحداث وتصعيدها في منطقة غرب آسيا.

جنوح “إسرائيل” نحو خطوات عملية ظاهرة في دعم أوكرانيا، أقله ضمن المستوى الأمني والتسليحي، يعني تحرك روسيا في اتجاه معاكس في المنطقة، كما هددت، ويمكن أن يؤدي إلى تصعيد لا ترغب واشنطن فيه حالياً، بمعنى أن الموقف الإسرائيلي من حرب روسيا والأطلسي في أوكرانيا مدروس أميركياً، بحيث إن واشنطن لا تمارس أي ضغوط على الاحتلال في هذا الشأن لعدم إعطاء مساحة إضافية للتحرك الروسي في منطقة غرب آسيا إلى جانب إيران وحلفائها.

والمثال الأبرز على أن “إسرائيل” لا يمكنها أن تتحرك بما يخالف المصالح الغربية هو الفيتو الأميركي على أي تعاون صيني – إسرائيلي في المجالين الاقتصادي والأمني  بما يعارض مصالحها. وفي مقابلة تلفزيونية مع قناة إسرائيلية في أيار/مايو 2020، قال وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو: “على إسرائيل أن تتعامل بحذر (مع الصين) أو أن تخاطر بالتعاون مع أهم حلفائها”، أي أن واشنطن خيّرت “إسرائيل” بين التعاون مع بكين أو معها.

بعد ذلك بأسبوعين، تراجعت الحكومة الإسرائيلية عن منح مجموعة “هونغ كونغ سي كي هاتشيسون” الصينية عطاء لبناء محطة لتحلية المياه بقيمة 1.5 مليار دولار، وهي ليست المرة الأولى التي تتراجع فيها “إسرائيل” عن اتفاقيات من هذا النوع؛ ففي عام 1999، تراجعت الحكومة الإسرائيلية تحت ضغطٍ أميركي عن صفقة كانت ستزود الصين من خلالها بطائرات “فالكون”. وعام 2003، قررت “إسرائيل” تعليق العقود المرتبطة بتصدير السلاح إلى الصين، متعهدةً بأنها لن تبيعها سلاحاً “يشكل خطراً على الولايات المتحدة”.

وبينما تحدث الإعلام الإسرائيلي في الآونة الأخيرة عن أنّ الاتفاق الصيني – الإيراني يقوّض أحلام “إسرائيل” في المنطقة، فإن عدم قدرة الأخيرة على خلق مساحة تعاون لا تعتبرها الولايات المتحدة ضرراً عليها، سيجعلها مع احتدام المواجهة بينهما (واشنطن وبكين) في “العقد الحاسم” جزءاً من المنظومة الغربية التي تستهدف الحضور الصيني في المنطقة وخارجها، وهذا ما سيولّد رد فعل صينية.

وقد عبّرت رسالة صينية نقلها السفير الإسرائيلي في آب/أغسطس الماضي عن قراءة صينية مستجدة للعلاقة بالتزامن مع اشتداد الصراع بين واشنطن وبكين في مختلف المجالات، إذ حذّرت الأخيرة “إسرائيل” من الإضرار بالعلاقات معها بسبب الضغط الأميركي. وقال مسؤولون في وزارة خارجية الاحتلال: “للمرة الأولى، تتلقى إسرائيل مثل هذه الرسالة الحادة والمباشرة من الصين في شأن مسألة العلاقات الثلاثية بين إسرائيل والولايات المتحدة والصين”.

إنّ أي اختراق إسرائيلي في آسيا أو في الشرق، أو في عالم الجنوب عامة، يتم فقط بما يخدم مصالح الغرب (اتفاقيات التطبيع مثال) أو على الأقل بما لا يؤثر في تلك المصالح. لا يمكن لـ”إسرائيل” أن تتجاوز القرار الغربي في مواقفها وعلاقاتها، لأنها وجدت بالقرار نفسه وبخلفياته السياسية.

أزمة الغرب: صعود آسيا

عام 2011، كان الجدل العالمي، بحسب براهما تشيلاني، وهو أستاذ الدراسات الإستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في العاصمة الهندية نيودلهي، يتركّز بشأن إذا ما كان صعود آسيا يشير إلى انحدار الغرب، باعتبار أن التحولات الحالية في القوة العالمية مرتبطة بشكل أساسي بالصعود الاقتصادي المذهل لآسيا، التي تحتضن أسرع اقتصادات العالم نمواً، وأسرعها صعوداً في مجال المشتريات العسكرية، وأشدها صعوبة في مجال التنافس على الموارد، وأكثرها احتواءً للمناطق الساخنة الخطرة، ما يعني، وفق تشيلاني، أن آسيا “تحمل المفتاح للنظام العالمي المستقبلي”.

بعد حوالى 10 سنوات من كلام تشيلاني، كان المستشار الألماني أولاف شولتس أكثر الزعماء الغربيين وضوحاً في التعبير عن خلفيات أزمة الغرب الجوهرية، ومن ضمنها الاقتصادية والسياسية، بقوله في 22 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إن السبب الحقيقي للأزمة هو صعود آسيا، وتحديداً نمو الاقتصادات الآسيوية التي تنافس أوروبا في الطاقة والمواد الخام والتكنولوجيا.

لعلّ ما ذكره شولتس يعبّر عن جزء من الحقيقة فقط، لأن حديثه عن المنافسة لا يراعي جانباً مهماً من الصعود الغربي في القرنين الماضيين، والذي قام على سياسات استعمارية كانت فيها آسيا “فريسة” بمواردها وأنظمتها السياسية وبناها الاجتماعية؛ فالصعود الآسيوي الذي نشهده حالياً يرتبط بشكل أساسي بقدرة الدول الآسيوية على الدفاع عن مواردها واستثمارها وفق مصالحها لا مصالح الغرب، أكثر من كونه مرتبطاً بمنافسة مع الآخر.

يكفي أن تتمكن الصين وباكستان وإيران والهند وغيرها من الدول التي لا تدور في الفلك الأميركي والغرب و”الناتو” من الاستثمار بما تملكه فيما بينها أو أن تصنع ما تستهلكه بنفسها، ليزعج هذا الأمر الغرب، ويشكّل أزمة له، بمعزل عما إذا كان يشكّل منافسة في الأسواق أم لا (وهذا ضروري أيضاً).

ويتحدث كيشور محبوباني، الأستاذ السنغافوري والسفير السابق للأمم المتحدة، عن هذا الأمر ضمن عالمٍ تحوّلَ بشكل جذري منذ نهاية الحرب الباردة. وفي ذلك، يعيد الآسيويون المطالبة بالدور البارز الذي أدّوه قبل صعود القوة الصناعية والإمبريالية الغربية على مدى القرنين الماضيين. هذا العالم، وفق محبوباني، لم تعد الدول الآسيوية فيه “أهداف” العلاقات الدولية التي تتصرف وفقها القوى الغربية، بل باتت “الفاعلة” في حد ذاتها. واليوم، لن يقبل 5.6 مليار شخص يعيشون خارج “الكون الغربي” بأن تتخذ العواصم الغربية القرارات نيابة عنهم.

كيف تتأثر “إسرائيل”؟

بالعودة إلى موقع “إسرائيل”، فإنَّ الصعود الآسيوي يكشف في الدرجة الأولى ثغرة كبيرة في أهم الوظائف التي وجدت “إسرائيل” لأجلها، بكونها “قلعة متقدة للغرب في مواجهة آسيا”.

وبينما تتمكَّن دول آسيوية من النهوض وفرض نفسها لاعباً ذا حضورٍ وازن في العلاقات الدولية والشراكات الاقتصادية، فإنَّ الغرب يضع كل مقدراته وتحالفاته في مواجهة ذلك. وهنا، الحديث لا يتمحور حول تحالف آسيوي في مواجهة “إسرائيل”. هذا الأمر غير موجود، وغير متوفر بعوامله، على الأقل في وقتنا الحالي، ولا يجب الرهان عليه، لأن السياق مؤثر ضمن اتجاهين مختلفين نوعاً ما:

– أولاً، إن مصير “إسرائيل” في آسيا لا يرتبط مباشرة بصعود دولها، بل بتراجع الغرب، لكن، ومع كون الأمرَين مرتبطين ببعضهما البعض، فإنّ عدم قدرة “إسرائيل” على التكامل مع الصعود الآسيوي ضمن موقعها الجغرافي في القارة (احتلالها أرضَ فلسطين) بسبب رفض الغرب ذلك، وعلى رأسه الولايات المتحدة، نتيجة كونه يهدد مصالحه، سيضع “إسرائيل” في دائرة الاستهداف والعزلة من دول مؤثرة في القارة الآسيوية (رسالة الصين مثال).

– ثانياً، إنَّ اتساع دائرة الصراع بين الغرب وآسيا الصاعدة سيكشف “إسرائيل” (حليفة الغرب وقلعته) أكثر أمام قوى مؤثرة وفاعلة في غرب آسيا. تلك القوى، وعلى رأسها إيران، لا تراهن على الجيش الصيني في تحرير فلسطين، لكنّها ستستغل إنهاك الصين للغرب وتجيّره لمصلحتها في المنطقة، من خلال استهداف مصالحه، ومن ضمنها “إسرائيل”، وعدم قدرة الأخيرة على صوغ علاقات آسيوية تحميها كلما اقترب الصدام واشتد (مثال على ذلك أن دعم الصين الشيوعية لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي عليها عام 1956 كان بعد دعم “إسرائيل” للولايات المتحدة في مواجهة كوريا الشمالية. أيضاً في عام 1965، افتتحت الصين مكتباً دبلوماسياً لمنظمة التحرير الفلسطينية ودعمتها بالمال والسلاح رداً على دعم “إسرائيل” للهند وعلاقتها السرية مع تايوان).

مسار اكتمال الظروف

نعم، تلك الفرضيات غير مكتملة في ظروفها، لكنها في طور الاكتمال، والحديث عن وجود كتلة آسيوية موحدة غير ممكن حالياً، لأن الغرب سيستمر في العمل على التفتيت والتقسيم والفصل.

لكن ضمن مسار اكتمال الظروف، تتقاطع عدّة مؤشرات بشأن أزمة “إسرائيل” وخوفها من مستقبل وجودها الذي عبّر عنه الكثير من قادتها، فالاحتلال الإسرائيلي كيان غير طبيعي، ووجوده مرتبط بالتوسع والحروب والقتال الدائم مع محيطه الرافض له، وعدم قدرته على الاستمرار في خوض تلك الحروب من أجل توسيع “حدوده” وفرض سيطرته المطلقة وتحوّله إلى كيان مهدد في وجوده، يستند بشكل أساسي إلى عاملين: الأول هو قوة المحور المواجِه له، والآخر هو عدم قدرة الغرب على تغطية تلك الحروب، كما كان يحصل سابقاً.

وعندما يتحدّث قادة الاحتلال الإسرائيلي عن وجود عجزٍ في حسم المعركة مع إيران عسكرياً، فإن هذا العجز غربي في الأساس، وليس إسرائيلياً، باعتبار أن الطرف الذي يمنع “إسرائيل” من شن هجوم عسكري على إيران هو الولايات المتحدة. طبعاً، الأمر لا يتعلق برغبة أميركية في إعطاء فرصة للسلام، بل في أن الخيار العسكري غير مجدٍ، وارتداداته سلبية، في الوقت الذي يخوض الغرب معركة مصيرية على صعيد البقاء متفرداً في قيادة النظام الدولي.

تأثر “إسرائيل” بتراجع الغرب سيكون مباشراً. وبما أنَّ هذا التراجع يأتي لمصلحة القوى الآسيوية الصاعدة كما يظهر، فإنه سيكون خطراً جداً عليها، لأن آسيا الصاعدة تنقسم إلى قسمين: قسم يواجِه الغرب لينهض محيّداً “إسرائيل” حتى الآن، وقسم آخر يواجه الغرب، ومن ضمنه “إسرائيل”، ليبقى.. وفي الحالتين، علّقت “إسرائيل” مصيرها بمصير الغرب في الشرق.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى