صعود الأسواني وتعذر الاتصال

 

هاتفته لأطمئن عليه، فلقد مر بتجربة قاسية مع المرض، كادت أن تودي به. قال لي إن اليوم هو أول مرة أرى فيها الطريق منذ مرضي.

نعم، قضى أكثر من شهرين بالسرير، على جهاز الأوكسجين أولًا، ثم تحسنت حالته فاستغنى عنه تدريجيًا حتى استطاع أن يكف عنه، فصار قادرًا على الخروج إلى الصالة، ليجلس أمام زجاج الشرفة ليستمتع بأشعة الشمس الدافئة لنحو ساعة كل يوم. ثم أخيرًا صار قادرًا على التجول عبر ردهات الشقة، إلى أن اضطر للخروج اليوم لزيارة طبيب الأسنان، إذ أصابت لثته تقرحات نتيجة كثرة استعمال المضادات الحيوية. لكنه لم يكن باستطاعته معاودة طبيب الأسنان حتى اليوم لأن حالته الجسمانية لم تكن تسمح إلى الآن.

سألته أن يصف لي فرحته برؤية الطبيب، إذ أضحى أول إنسان يقابله منذ بداية المرض، فقال على الفور، بل اسألني قبلًا عن السرور الذي تملكني عند رؤيتي سلم العمارة، وباب مدخلها المعدني، ثم سيري فوق الممشى المؤدي إلى الشارع.

ثم قال لي: هل تتخيل إن ذلك الطبيب هو الأول الذي يكشف على أسناني منذ أكثر من عشرين عامًا بعد أن كان يعالجني د. علاء الأسواني؟

أثار اسمه فضولي، فسارعت بسؤاله: وهل تعرفت إلى د. علاء الأسواني قبل نشر روايته “عمارة يعقوبيان”.. أم بعد ذلك؟

فرد فورًا: “لا، بل قبلها بكثير، أيام كان يكتب القصص القصيرة، كنت أذهب إليه لعلاج أسناني، وكان هو يقضي الساعات معي، فيعد لي الشاي، ثم يجلس إلي ويبدأ في قراءة قصصه، وكنت أول من قدمه للقراء على صفحات جريدة “الأخبار” من خلال ملحق الخميس الذي كان يحما عنوان “آخر الأسبوع”، فقد كانت لي زاوية ثابتة فيه بعنوان “كاتب جديد”.

استمعت إليه إلى أن انتهى، وأنا فَرِح باستعادته القدرة على الحديث المسترسل، دون نهجان أو سعال، وجاء صوته قويًا، لا وهَن فيه، أو تقطع.

وما إن تناهى حتى أعلنت إليه: “هل كلمتك قبلا عن علاقتي بعلاء؟” فأجابني نافيًا. رحت أشرح لصديقي ذكريات علاقتي بالكاتب، وطبيب الأسنان، وخريج مدرسة الليسيه بباب اللوق قبل نحو نصف قرن.

قلت لصديقي إنني نشرت في عام 2003، وأنا هنا في أميركا، مقالًا بجريدة “وطني” عن رواية “عمارة يعقوبيان” جاء فيه: “هذا الكتاب أمتعنى حتى النخاع، فقد تنقل بي د. علاء بكل رشاقة في شوارع وسط البلد، وبين ردهات عمارة يعقوبيان ليكشف لي عن حقيقة ما آل إليه الشارع المصري مع مشارف القرن الحادي والعشرين. وفي الطريق إلى نهاية الرواية، يطوف بي المؤلف ببراعة لأتعرف على أعماق المجتمع اليوم من خلال شخصيات يجمع بينها الشذوذ على أنواعه.

وفي هذه الرحلة الممتعة شعرت بأنني أتمشى مع صديق واعٍ ومرهف لكل ما يدور حوله يعبر عنه بكل صدق، وبرغم ما تكشف عنه روايته من مرارة الواقع، إلا أنه يطرح في النهاية منظوره الشخصي للحل الأمثل لتغيير هذا الواقع الشاذ…”

وبعد أيام من نشر مقالي هذا، جاءتني رسالة من د. علاء الأسواني يشكرني فيها على المقال، وخاصة أنه نشر في جريدة “وطني” لأن أغلب قرائها من الأقباط، الذين كانوا قد ثاروا عليه لتصويره شخصيات مسيحية بشكل سلبي.

فكان ردي عليه هو أن شخصيات الرواية يجمع بينها الشذوذ بمختلف أنواعه، ولذلك فإن استثنيت الأقباط من بينهم لصار ذاك عوارًا في بنائها.

ورد موافقًا، ثم توالت الرسائل بيننا، إلى أن بدأ يسألني عن دراستي في مصر، بداية من مدرسة الليسيه، إلى الفرير، وحتى كلية طب قصر العيني. وهنا استوقفني علاء قائلا: “إذن فأنت لست شريف مليكة، بل شريف ماهر، الولد الأسمر السريع العدو، أليس كذلك؟”، فضحكت وشرحت له أن اسمي هو فعلًا شريف ماهر لكن في أميركا يطلقون عليك الاسم الأول ثم لقب العائلة وهو مليكة، لذا تغير اسمي. ثم وصف لي شكله أيامها، وبعث إليَّ صورته فعرفته على الفور.

وعند أول زياراتي إلى مصر، هاتفت علاء وتلاقينا لأول مرة منذ طفولتنا.

أطلق عليَّ لقب “الصديق القديم الجديد”، وقضينا أوقاتًا ممتعة للغاية على مقاهي القاهرة، وأكلنا “عيش وملح”، كما يقول المصريون، بل قل عيش وحمام لأننا قصدنا مطعمًا شهيرًا بتقديم الحمام المشوي لزبائنه، تخلى من أجله علاء عن النوم مبكرًا، ليستيقظ قبل الفجر، ويجلس للكتابة. وحضرت ندواته الأسبوعية عدة مرات في كل زيارة للقاهرة، وكان عادة ما يقدم في بدايتها كاتبًا جديدًا، قبل أن يتطرق الحديث إلى السياسة، والتغيير كشأن معظم المثقفين.

ثم تلاقينا بعد ذلك في نيويورك ذات صيف، وكان مدعوًا إلى منتدى روائي عالمي ممثلًا لمصر، وكان ذلك تقريبًا في نحو عام 2004، وكنت جد فخور بوجوده بين تلك الكوكبة الآتية من شتى أنحاء العالم.

وأتذكر أنني أعجبت بقراءة كاتب تركي كان مدعوًا، وقدم مقطعًا من إحدى رواياته، فأبديت سروري بقراءة ذاك المدعو أورهان باموق. أما علاء فأبدى امتعاضه منه قائلًا إنه يأخذ أكثر مما يستحق لهجومه المستمر على النظام السياسي في بلده. لكنني فوجئت بفوز باموق بجائزة نوبل في الأادب في عام 2005.

وعندما نشرت أول مجموعاتي القصصية “مهاجرين” في عام 2005 تلك التي قدمها الراحل ألفريد فرج، وكنت في أميركا وقت صدورها، قدمها علاء الأسواني في إحدى ندواته الأسبوعية، وأرسل لي تسجيلًا لوقائعها.

وحينما نشرت أولى رواياتي “زهور بلاستيك” حضرت إلى القاهرة في شهر مايو/آيار 2006، ونظم لي علاء الأسواني ندوة لتقديمها بمقهى “سوق الحميدية” بوسط القاهرة، ولكنه لم يستطع الحضور، فتولى مهمة إدارة الندوة طبيب شاب أبهرني بقراءته العميقة للرواية مثل أبرع ناقد أدبي، وصرت بعدها صديقا للدكتور حامد عبدالله أستاذ الامراض الجلدية والتناسلية والعقم بكلية طب قصر العيني، وهو الذي استمر يبهرني بذهنه المتحرر، وأفكاره التقدمية.

وفي مايو/آيار 2008 قدمنا الطبعة الثانية لرواية “زهور بلاستيك” وعقدنا ندوة حولها في مكتبة “ديوان” بالزمالك، أدارها بجدارة علاء الأسواني.

ثم بدأ نجم الأسواني يعلو في سماء الأدب في مصر. وفي الغرب طبعًا، وتلقاه الإعلام هنا بحفاوة، فنشرت أحاديثه في كبريات الصحف والمجلات الإنجليزية والفرنسية والأميركية. وصار التواصل معه بمرور الوقت أصعب، مما أدى بي إلى التواصل مع طبيبة أسنان كلفها هو بالرد على هاتفه المحمول، لتصبح هي حلقة الوصل بيننا. وحدث أن أعد لي ناشري ندوة لمناقشة أحدث رواياتي “رقصة قوس قزح” آنذاك في إحدى أمسيات شهر مايو/آيار 2010 في مكتبة في شارع الديوان بحي جاردن سيتي، وجدتها تقع في مواجهة عيادة علاء الأسواني، فهاتفته فرحًا لأدعوه لحضور المناقشة، أو حتى جزء منها، وكان يرأسها الكاتب العراقي الراحل خضير ميري. لكن سكرتيرة الأسواني ردت عليَّ أولًا فأعلمتها، فهاتفتني مشكورة لتنقل لي رده أنه مشغول، ودعوته لي للذهاب لاحقا إلى ندوته إن أردت لقاءه.

ومع قيام ثورة يناير 2011 علا شأن علاء الأسواني أكثر وأكثر، فصار متصدرًا رأي المعارضة، ثم قام بمعركة السخرية من الفريق أحمد شفيق المرشح المنافس لمحمد مرسي في انتخابات الرئاسة، بل وازدراء شفيق مباشرة على قناة فضائية مصرية. ثم بعدها شارك في المهزلة الشهيرة للقاء مع الإخوان في فندق فيرمونت. ولتلك الشهرة المدوية تعذَّر الاتصال بيننا، وفي حقيقة الأمر فترت العلاقة لتباين الاتجاهات الإيديولوجية، ولاقتصار كتاباته على المقالات السياسية، بينما غاب الأدب الذي كان يجمعنا.

انتهيت من حديثي عن د. علاء الأسواني الذي كان آخر طبيب أسنان يكشف على صديقي، الذي دعاني بإصرار لتدوين تلك الذكريات، وإرسالها فورا لنشرها. تعجبت من إصراره، حتى سألته، تحت أي عنوان تود أن أكتبها؟ فرد عليَّ هي “دردشة مثقفين” يا صديقي، لكنها أضحت منذ هذه اللحظة “وثيقة أدبية” يجب أن تخرج إلى النور.. ففعلت.

ميدل إيست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى