صفقة القرن … بين التدشين والتكفين!

 

من بين الوعود الانتخابية التي أطلقها دونالد ترامب خلال حملته التي قادته إلى البيت الأبيض، وعدٌ حول قدرته على حل المشكلة الفلسطينية المستعصية على الحل في ستة أشهر، وسرعان ما تبلورت أفكاره تحت عنوان عريض هو «صفقة القرن». ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، نجد أن حالة من الغضب المكتوم باتت تشوب علاقات القاهرة وعمّان ومن قبلهما رام الله وواشنطن على خلفية تكشف أن المطلوب ليس فقط قبول الصفقة، لكن كذلك التعاون للترويج لها وإنجاحها. واشنطن عادت وعدّلت من صيغة الصفقة المقترحة سعياً لترضية الأطراف المعنية. وقابل هذا موقفٌ حاد وقاطع من رام الله، ووصف مقربون من دائرة التفاوض في القاهرة المسؤولين عن ملف الصفقة في الإدارة الأميركية بأنهم «هواة»، وتصريحات العاهل الأردني ربطت بين أسباب اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في بلده وممارسة ضغوط لتليين موقف عمان من «صفقة القرن».

وبداية، نوضح أنه يربك حسابات أي مفاوض فلسطيني أو عربي حقيقة أن الولايات المتحدة تتراجع عن اتفاقاتها المبرمة، فقبيل تراجعها عن الاتفاق النووي مع إيران في أيار (مايو) الماضي، سبق أن انسحبت مِن اتفاق باريس للمناخ، واتفاق التجارة الحرة، واستهدفت مصالح الدب الروسي، فما بالك بنظرة أميركا إلى الصديق العربي المثقل بالمشكلات المتراكمة، إذ سبق أن تمّ إفراغ الاتفاقات الفلسطينية- الإسرائيلية مثل «كامب ديفيد 2»، و «واي ريفر» من مضمونها. فإذا ما تمّ التغاضي عن الانحياز الأميركي لإسرائيل في مواجهة الشرعية الدولية وليس العرب فقط، فهل يمكن الارتكان إلى تعهدات أميركية بعد تراجعها عن تعهدات سابقة منذ أسابيع قليلة وبعد تراجعات تاريخية أخرى؟

في هذا السياق تجب ملاحظة أن طرح اسم عبدالعزيز الدويك (رئيس المجلس التشريعي المنتهية ولايته) كبديل لأبو مازن يعني تعثراً جديداً لتطبيق أمين لما أسفرت عنه جلسات الحوار في القاهرة من إجراءات لم ينفذ منها شيء، على رأسها تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتهيئة الأجواء لانتخابات جديدة. ومن الصعوبة بمكان أيضاً إعلان سلام فياض بديلاً جاهزاً لحل كل المشكلات المتراكمة والمعقّدة. لذا يجب الالتفات إلى بلورة مواقف أكثر وضوحاً من الجبهة الشعبية، وحزب الشعب، والجبهة الديموقراطية، فهي أطراف معنية بالتوحيد، ودعمت المفاوضات التي أجريت في مصر، وقبل ذلك تفهم حقيقي لمواقف الشارع الفلسطيني، إذ أصبح بعد أيار (مايو) 2018 مختلفاً، لأن الناس تظاهرت في الضفة، وفي مسيرات العودة في غزة بتنظيم عفوي ومشاركات مؤثرة من قوى يسارية، ويمينية، ومستقلين لا تلتفت غالبية الأطراف إلى قدرتهم في التأثير على المشهد الفلسطيني.

وفي المقابل أكدت مصادر إعلامية إسرائيلية أن «حماس تعلم أنها تحتاج للسيطرة على الضفة في حال غياب أبو مازن للوصول إلى صيغة تفاهم مع إسرائيل في شأن النقاط الساخنة مثل الخليل وبيت لحم»، ما يجعل التنسيق لتقسيم الضفة مطروحاً كخطوة تكتيكية انتقالية. ومع استمرار ممارسة ضغوط على الأردن بالتلويح بنزع الوصاية الهاشمية عن المقدسات، ونقل المسؤولية الكاملة إلى إسرائيل أو تحريك الشارع مجدداً على خلفية احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية، والبحث عن صيغة لدعم اقتصادي خليجي أكبر لرفع مستوى المعيشة وتلبية الاحتياجات الأساسية لقطاع غزة. كل ما سبق يوفر ستاراً كثيفاً من الغبار يتم خلفه -على رغم تحفظ واشنطن العلني- تشييد نحو 15 ألف وحدة استيطانية جديدة في الضفة، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تمّ تشييده في الفترة نفسها خلال حكم أوباما! وما سبق من تطورات يزيد من تراجع شعبية اليسار الإسرائيلي حتى بعد أن اضطر لتأييد ضم أحادي الجانب لكتل استيطانية في الضفة، وبعد تأييده انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وقبل ذلك الترحيب بنقل السفارة الأميركية للقدس! أي أنه يضطر للسير خلف اليمين المتطرف سعياً لوقف نزيف الشعبية داخلياً.

الحديث يدور حتى الآن عن «نصف صفقة»، أو «نصف جنين»، يتم طرحه من دون الحاجة إلى موافقة وتعاون أبو مازن، ومن خلاله يتم البحث عن حل سياسي للأزمة الإنسانية في غزة من خلال التزامات مكتوبة للمرة الأولى مع «حماس» بضمانات أميركية، وطرح «حماس» كبديل لـ «فتح» بعد خطوة الوثيقة المبادئ السياسية التي أعلنها خالد مشعل منذ نحو عام، والتقارب مع مصر، وتمكنها من إيقاف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل من قبل بعض الفصائل، والخروج من مسيرات العودة بكثير من المكاسب العلنية، ما يضعها في وضعية أفضل في اليوم التالي لرحيل أبو مازن أو تدهور صحته، في ظل احتمال دمج محمد دحلان ضمن منظومة إدارة غزة. ويتضمن السيناريو نفسه استبدال «الأونروا» بتفاهمات مع قبرص، ورعاية مصرية لإجراءات تحسين الأوضاع الإنسانية، ما يحل مشكلة التيار الكهربائي ودخول وخروج البشر والبضائع من وإلى القطاع.

في الأحوال كافة، نرى أن «صفقة القرن» ليست كالموت لا يمكن رده. فحقاً المروجون لها كمبعوثين ومفاوضين من الجانب الأميركي ليسوا «هواة»، لكنهم يسعون بتخطيط مسبق لتكييفنا على تجاوز ركائز وثوابت في الصراع العربي الإسرائيلي، مستغلين أن أطرافاً فلسطينية توفر لهم مساحة للتحرك بخاصة بعد دخول مساعي المصالحة الفلسطينية إلى مستنقع خطير منذ الاستهداف الغامض لموكب رئيس الوزراء الحمد الله في غزة. لكن رغم كل هذا فإنه لا يمكن أن نغفل أن رؤية الإدارة الأميركية سقطت في مصر 30 حزيران (يونيو) 2013، وسقطت في ليبيا، وفي سورية، وفي عدم انسحاب الدول الغربية من الاتفاق مع إيران. وسبق لواشنطن أن تراجعت عن مخططاتها في لبنان، والصومال، وقبلهما فيتنام. وكما استطاع الفلسطينيون إجبار حكومة نتانياهو على التراجع عن قراراتها في شأن كاميرات، وبوابات كشف المعادن، وكما تسببت مسيرات العودة في طرح القضية الفلسطينية من جديد على الرأي العام وعلى مجلس الأمن، يمكن الفلسطينيين الدفاع عن حقوقهم -بدعم عربي وتحرك دولي- بقوة في مواجهة المخططات الساعية إلى دفعهم نحو قبول أمر واقع، بشرط التجرد ونبذ الخلاف الداخلي الممتد لعقد من الزمان، وسيكون الرقم الصعب في هذه المعادلة تحرك الشارع العفوي وتقييمه لحجم المخاطر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى