صندوق انتهت صلاحيته (جميل مطر)
جميل مطر
كان هدفا وحلما وانتهى صنما. من أجله، ومن أجل أهداف أخرى، خرج الناس إلى الميادين وسقط منهم من سقط واختفى من اختفى، وحوله اختلف الأصحاب والأصدقاء وبسببه انقسمت عائلات. كان هدفا من أهداف ثورات المصريين وحلما توارثته الأجيال، وكان، ولا يزال على ما يبدو، شرطا أميركيا لتقديم الدعم والمساندة لأي تيار، يفضل أن يكون دينيا، يرغب في تولي شؤون الحكم في مصر، وكان ولا يزال يستخدم مبررا شرعيا لانتهاكات وحائط مبكى لمن لا يرحمون.
إنه الصندوق، صندوق الانتخابات. إسم يتردد على ألسنة أشخاص كثيرين. بعضهم لا أشك للحظة واحدة في صدق نواياه وإيمانه العميق بالديموقراطية أو بضرورات الاستقرار والشرعية القانونية، وبعضهم أشك كثيرا في أمانته وصدق التزامه بالثورة، وأكثرهم لا يريد أن يعترف بأن الصندوق لم يكن سوى خطوة مرتبطة بخطوات أخرى. كثيرون يتعاملون مع الصندوق باعتباره القفزة الواسعة والسبيل الأمثل نحو إقامة حكم «استبداد ديني» مقبول شكلا من دول بعينها ومطلوب شكلا ومضمونا من القطب الأعظم.
حسب المعلومات المذاعة، وحسب التأكيدات الأميركية، كان الصندوق، في أرقامه على الأقل، صادقا. وهذا في حد ذاته بيان أساسي بالنسبة لأطراف عديدة وجدت في نتائج هذا الصندوق ما يحقق أغراضها، مرحلية كانت أم دائمة. آخرون، وأنا واحد منهم، يعتقدون أن الصندوق، بهذا المعنى، كان صادقا، وما زالوا يتمسكون بمبدأ أن الصندوق خطوة ضرورية ولكن ليست كافية لمسيرة الديموقراطية والحريات. ولكنهم، وما زلت واحدا منهم، يعتقدون أنه بعد حين سوف يظهر من الأحداث والتطورات ما هو أصدق من الصندوق . نعرف من تجارب كثيرة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، بل وتجارب عالمية عتيدة شهدتها الثورات الكبرى، أن التغيرات التي حدثت خلال المراحل الانتقالية في أعقاب الثورات كثيرا ما كشفت عجز صندوق الانتخابات عن مواجهة الواقع، خاصة في حالات لم تكتمل فيها شروط البناء الديموقراطي السليم، مثل مجالس محلية منتخبة من خلال صناديق أخرى، ومثل احترام القوانين والتمسك بروح الثورة، ولذلك فإن أي التفاف حول أهداف الثورة وقيمها وأحلامها، يفقد الصندوق كثيرا من قيمته ومكانته. وبمرور الوقت يفقد أهليته، ويصبح الاعتداد به في وجه المعارضين وأنصار التغيير، مدعاة للاستخفاف والسخرية.
لم يكن من أهداف الثورة إقامة حكومة دينية في مصر. وليس صعبا أن نخمن نتيجة أخرى للصندوق غير النتيجة التي توصل إليها إذا كانت جماعات الدين السياسي خرجت في حينها طارحة نفسها حكومة وقيادة لهذا البلد. وليس صعبا علينا الآن، لو طلب منا، تخمين نسبة الأصوات التي يمكن أن تحصل عليها جماعة دينية، أو ائتلاف من جماعات دينية ترشح نفسها لقيادة مصر في ضوء ما حدث خلال الأيام الماضية من «تجاوزات سياسية كارثية « من جانب عدد غير قليل من قادة التيارات الدينية في مصر. لا أشك للحظة في أن غالبية المصريين لن يصوتوا لمصلحة هكذا تيارات، وهكذا ممارسات. بمعنى آخر، الصندوق الذي أتى بالجماعة إلى الحكم ويعتد به، صادقو النية، ويعتد به أصحاب المصلحة، وتعتد به دول الغرب، باعتباره المصدر الوحيد للشرعية والشرط الأوحد لمواصلة مسيرة الديموقراطية في مصر، لم يعد يعبر عن حقيقة وحجم توقعات الشعب المصري. وهو بلا شك لم يعد يعكس حال الثورة وطبيعتها وأهدافها.
كان الدكتور مرسي شريكا لمواطنين في عملية الصندوق. صوت له أكثرية من الناخبين استنادا إلى اقتناعات وظروف عديدة، لم تكن بينها شهادة من مرشح الرئاسة انه وجماعته منفصلون ومستقلون عن أي تنظيم عالمي أو أممي، وعن أي تيارات إقليمية، كانت دائما وأبدا تكن لتطور مصر الحضاري كراهية وبغضا ورفضا. لم يصرح مرشح الرئاسة لشركائه في الصندوق، بأن هذه الارتباطات قد تدفعه إلى التضحية بمصلحة أو أخرى من مصالح مصر القومية. لم يعترف المرشح لهم بأنه لا يملك الجهاز أو الخبرة اللازمين لإدارة مصالح مصر الخارجية وتحالفاتها الإقليمية ومشكلاتها الحدودية وتأمين مصادر المياه والحياة. أمور كثيرة أضعفت استعداد المواطنين لاستمرار الاعتداد بالصندوق وشرعيته، أهمها على الإطلاق أن أحد الشريكين أخل بواجبه وأخفى عن شريكه معلومات، لو أدركها قبل التصويت، لما صوت لمصلحة هذا المرشح.
جاء الصندوق لتلبية حاجة يعرفها كل الشركاء في الصندوق وهي الوفاء بأهداف الثورة، وفي مقدمة هذه الأهداف إصلاح جميع مؤسسات الدولة وتنظيماتها وجماعاتها، وإدخال تطوير عليها يسمح بأن تؤدي دورها في تنمية المجتمع وتحديثه خلال المرحلة الانتقالية. إلا أن الواقع المؤلم يصرخ في وجوهنا مؤكدا أنه لم يحدث خلال العام المنصرم إصلاح ذو قيمة في أي قطاع أو مؤسسة أو جماعة أو حزب، بل لا أبالغ إن قلت إن الغالبية العظمى من المؤسسات أصابها المزيد من التخلف والاعوجاج بما يشي بسوء المصير ويزيد من حال الكآبة والتشاؤم.
نعتد بالصندوق، ويجب أن يتأكد اعتدادنا به؛ فهو بحق الخطوة الأولى على طريق المرحلة الانتقالية نحو الحرية والديموقراطية، ولكن لكي يتعزز اعتدادنا به ودفاعنا عنه يجب أن يكون شريكنا فيه أمينا على وعده، صادقا في نيته، كفؤا في أدائه، ملتزما بأهداف الثورة وخادما مخلصا للدولة المصرية ولكل المصريين. لا يميز هو أو جماعاته وصبيانه بين مصري ومصري، ويعلن موقفا واضحا من تدخل رموز الإرهاب في شؤون الدولة الداخلية والخارجية وشؤون المواطن الخاصة.
بدون تجديد هذه الالتزامات من جانب الرئيس المنتخب لا أتوقع عودة إلى الاعتداد بالصندوق بل انتهاء صلاحيته وانفضاض الشراكة.
صحيفة الشروق المصرية