ضحكة جورجينا رزق، وتجهم وجه غسان كنفاني!

كنت أدور في ساحة البرج في بيروت، وأنا لا أعرف إلى أي اتجاه أذهب، كانت ساحة البرج دوامة بالنسبة لي، فهي أكبر من ساحة المرجة بدمشق ، وكثافة الحركة فيها أشد ، ويمكن لطفل مثلي أن يضيع بين الزحام إذا لم يستدرك الأمر ..

سألت مواطن لبناني:

ــ عمو . كيف أذهب إلى النبعة ؟! فأجابني :

ــ اركب في بوسطة برج حمود !

لم أفهم معنى بوسطة، فشرح لي الأمر بلهجة شامية، وهو يسخر من نظراتي الطفولية المتسائلة :

ــ يعني باص .. عمو!

ركبت في بوسطة برج حمود، وسرحت مع أحاسيس الغربة التي انتابتني وأنا أقف بين الناس، فوصلت إلى النبعة ، ثم إلى بيت خالتي الذي أقصده، فإذا هو ملحق في آخر بناء بين برج حمود وحي النبعة..

كانت تلك أول مرة أزور فيها بيروت، وكان ذلك في صيف عام 1971، أي أنني كنت فتى يافعا، ومن السهل أن أتعايش مع موطن جديد لي برعاية خالتي. أمضيت فيها صيفا جميلا، وأنا أعمل في ((غاليري مقري)) في منطقة الدورة، وهو معرض مفروشات كان يتردد عليه الفنان اللبناني حسن علاء الدين ((شوشو))، وكان يستغرب أن أقوم أنا العامل الصغير بقراءة الصحف ، ولكي يتأكد أنني أقرأ فعلا ، سألني : ماذا تقرأ فيها ؟! فقلت له بسرعة وسعادة : كل ما يكتبه سعيد فريحة، فأعطاني مشجعا عشر ليرات لبنانية، أي نحو 10دولارات ..

صار لي أصدقاء من الفتيان خلال ذهابي وعودتي في طريقي اليومي بين برج حمود والدورة ، وكنت أحس أن اللبنانيين الذين أتعامل معهم في الشغل ((زعران))، فهم يتعاملون بالصراخ ويرتدون تي شيرتات ملونة ويحبون غوار ويقولون عن السوري: حوراني..

عدت من بيروت في آخر الصيف وأنا لا أعرف بيروت !

تعرفت فقط على جورجينا رزق، فقد ضجّ لبنان بنجاحها كملكة جمال للعالم، ودفعني ذلك إلى شراء مجلة الشبكة لأن صورتها كانت على الغلاف، وصارت بيروت بالنسبة لي جورجينا رزق وضحكتها الجميلة رغم أنني لم أكن قد تعرفت على أسرار بيروت بعد ..

قلّبت مجلة الشبكة عشرات المرات، ومن خلالها قرأت لجورج جرداق وجورج ابراهيم خوري وأشياء جديدة لسعيد فريحة، لكن الأهم أنني وأنا أقلب صفحاتها حفظت عنوان المجلة في الحازمية، وحلمت أن أزور مكاتبها!

في دمشق، كانت تأسرني ذكريات بيروت، فأشعر أنها لي وأني منها، إلى أن جاء الصيف التالي، أي صيف عام 1972 ، وفي تموز من ذلك العام ترامت الأنباء عن تفجير الموساد الإسرائيلي لسيارة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في الحازمية، ولأن الحازمية تهمني قرأت الخبر عدة مرات فحزنت كثيرا رغم أني لا أعرفه ولم أقرأ له.. احتفظت بصورته، ففي صورته أجمل حالات التجهم في وجوه الرجال رغم أنه استشهد شابا ..

صارت بيروت بالنسبة لي صورتين متناقضتين واحدة لجورجينا رزق وضحكتها التي فتنت العالم، والثانية لوجه غسان كنفاني المتجهم الذي أغضب الإسرائيليين بإبداعه فاندفعوا لارتكاب جريمة اغتياله .. وقد أصبح هذا الوجه ((لوغو)) مجلة الهدف التي سأزورها بعد أعوام من استشهاده ، وأسأل عن مكتبه وأقلامه ..

اندلعت الحرب الأهلية بعد مجزرة البوسطة في عين الرمانة عام 1975، وصارت الحرب هاجسي، ومصير من أعرفهم يشغلني، واستمر ذلك إلى عام 1977 فزرت بيروت مرة ثانية، وكانت الحرب في آخرها وكان الجيش السوري قد دخل مع قوات الردع العربية لوقف الحرب.. أول ما لفت نظري في بيروت، أنها أوسع من النبعة وبرج حمود والدورة، وأن منطقة الحازمية في أولها ، ومن الحازمية دخلت إلى بيروت من جديد ورحت أبحث من خلال زجاج السيارة عن أشلاء غسان كنفاني وعن بناء دار الصياد الذي تصدر عنه مجلة الشبكة ..

كان طريق غاليري سمعان الذي ننحدر نحوه من الحازمية باتجاه وسط المدينة مغلقا بسبب القنص كما أعتقد. اندفعت السيارة باتجاه طريق فرعي لأن ساحة البرج طارت.. أكلها دمار الحرب الأهلية، والطريق إلى الدورة وبرج حمود يعني الذهاب إلى دولة ثانية، فقد انقسمت بيروت إلى ((بيروتين)) : شرقية وغربية.. وكان الطريق الذي سلكته السيارة يذهب إلى حي الفاكهاني وشارع الحمرا، ولم أعد أشاهد برج حمود والدورة أبدا !

بدا شارع الحمرا عام 1977 صورة جديدة لم آلفها من قبل، وفي شارع الحمرا كنت أحس أن اللبنانيين الذين أشاهدهم ، ليسوا ((زعرانا)) كما أحسست في تجربتي الأولى عام 1971، فهم لايرتدون تي شيرت، ولايتحدثون عن غوار، ولا يقولون عن السوري : ((حوراني)) .. بل يتحدثون عن ليلى بعلبكي وغادة السمان وأدونيس ومحمود درويش وغيفارا وفلسطين،
ويقولون عن السوري : ((ردع)) ، فأحسست أنهم تغيروا .. يشبهون أهل باريس ولم أكن قد شاهدت تفاصيل الحرب الأهلية جيدا لأتأكد من ذلك، ومع ذلك شغلتني بوسترات الشهداء ومتاريس الحرب وصور ياسر عرفات وجورج حبش ولوحات للرئيس سليمان فرنجية كتبت تحتها عبارة: وطني دائما على حق !

((يتبع .. ))

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى