ضد الملل
ترتفع الشكوى في هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى ، و هي محقة إذ تبدو قصائد و قصص و مسرحيات أيامنا باعثة على الإملال لا لشيء سوى أن نبرتها الوطنية تقودها إلى فتح طريق واحد لا توصل إلى القلوب، ذلك لأنها إنجازات لا تتجاوز الآذان والعيون ، وهكذا صار ممكناً أن يدان ما يسمى شعر أو أدب المقاومة إذ يوصف في معظم تجلياته بالركاكة وعلى الأخص حين نلاحظ أن الكاتب ينبه، أو يكاد ينبه بإستمرار أنه كان أول من نبه إلى هذه الخدعة أو تلك وأن الأوان قد حان أخيراً لأن نجد الجرأة على مراجعة ميولنا و أذواقنا و ترميم ما يمكن ترميمه من بناء الواقع الفكري أو الأدبي لإقامة بناء جديد مكانه يصلح لحضور أصحاب الذوق الرفيع والرؤية العصرية البعيدة المبدعة والثقافة الفعالة التي تدوم.
إقرأ أكثر من مقال أو دراسة أو خاطرة تجد في لهجتها ما يفيد أن صاحبها يتنصل من المرحلة التي يتحدث عنها و أنه يترفع فوقها . إنه لا يجود علينا حتى بكلمة أسف. لقد آن الأوان كي نفهم – نحن العرب المتخلفين – أن الفن الحقيقي ،الفن الخالد ، يتجلى أفضل وأعمق من خلال الهموم الذاتية ، أو الموضوعات ” المطلقة ” غير المرتبطة بزمان أو مكان إلا لكي تدفعنا إلى التفكير بكل الأزمنة والأمكنة ، و بالإنسان عموماً بمعناه الوجودي المطلق . خذو مثلا الكاتب الروسي الكبير ” ليو تولستوي” في روايته الضخمة والرائعة حقا ” الحرب و السلم ” التي انتقد فيها القائد الفرنسي المشهور ” نابليون” في غزوه القاسي و الفاشل أخيرا لروسيا و على الأخص في مقدمة الرواية و نهاياتها …
إن إنتقاده الفكري والوطني لنابليون لا يهدف فقط إلى إدانة نابليون، وإنما إدانة أسلوب الحكام الطغاة عموماً أو بتعبير آخر إدانة ” ظاهرة الطغيان ” بالرغم من أن نابليون يعتبر في كتب التاريخ الفرنسي – و غير الفرنسي – أحيانا أنه بطل الأبطال … إن هجوم تولستوي الفكري على نابليون هو في الواقع هجوم على ظاهرة بشرية عامة وكيف تولد وكيف تتطور وتصبح مؤذية . و في مثال آخر هو رواية الفيلسوف الوجودي الفرنسي ” جان بول سارتر ” المسماة ” الغثيان” التي يركز فيها ” سارتر ” على قرف بطل الرواية من بعض المظاهر التي لاحظها في سكان مدينة فرنسية أنها مظاهر مقرفة فعلا تبعث على الغثيان هنا أيضا نلاحظ أن “سارتر” لا ينتقد المدينة بشكل عام وإنما ينتقد أسلوب الناس عموما في أية مدينة تسيطر فيها طبقة البرجوازية التي تعبد المال والأرباح المادية عموما وبالتالي نفسه جميع سكان المدينة مع أنهم ليسوا جميعا ينتمون إلى هذه الطبقة .
هكذا يكررون أنفسهم في بلادنا العربية المتخلفة حتى الأن بعد أن كان العرب هم سادة الحضارة العالمية في معظم أحوالها المعيشية التقدمية .
و هكذا يجترّون شكواهم دونما إنقطاع من حالة التخلف المريعة التي تأخذ بخناقهم دون أن يعرفو الأسباب الحقيقية لهذه الهزيمة الحضارية المستمرة في تخلفها أكثر فأكثر من دون أن نتجاسر على قول الحقيقة كاملة في فهم عوامل عصورالإنحطاط المستمرة لدينا … إننا نكرر في معظم مؤلفاتنا الأفكار نفسها التي تبعث على الملل … و إذا عرفها أحدهم و كتب عنها بصراحة مؤثرة يحكم عليه بالإعدام أو النفي أو السجن المؤبد … إنها حالة تبعث على الملل حقا و لا أقول اليأس بمعناه المطلق … ولا بأس أن نفكر و نعمل ضد هذه الظاهرة … فما العمل ؟؟!!.