
قد يغدو المكان على الرغم من سعته ورحابته أضيق من خرم الإبرة، وهذا ما انتبهنا إليه، ولفت نظرنا في بعض كتابات الشاعر السوداني محمد الواثق وهو يهجو مدينة أم درمان ويعبر عن ذلك صراحة في قوله:
” لا أحبذ أنت يا أم درمان من بلد
أمطرتني نكداً لا جادك المطرُ
ويبرر ذلك حين يضيف:
” ولا أحب بلاداً لا ظلال لها
يظلها النيمُ والهجليج والعشر”
ويسأل بعد ذلك:
” نشدتك الله هل في الأرض متسعاً
غرباً إلى فاس أو شرقاً إلى الصين”
وفي مطرح آخر يبدو لنا وكأنه فقد الأمل بمغادرته، واستسلم لقدره مع المكان وأيقن البقاء في داخله رغماً عنه، لأنه ليس أمامه من حل سواه، ولذلك يستلهم التاريخ والتراث الديني، متقاطعاً معهما بما يشبه الدعاء في قوله:
” إن كان حكمك أن لا نغادرها
فاجعل لنا أجر من قد مات في أحد
أو هب لنا منك صبراً نستعين به
أو ما صبرت به أيوب من جلد”
جئت على ذكر ذلك، لأنني كنت يوماً من الفائزين بجائزة الطيب صالح العالمية، وقدر لي أن أزور العاصمة السودانية “الخرطوم” وقد تجولنا في أمكنة عديدة مع الوفد الذي رافقنا ومنهم الصحفي والكاتب السوداني الجميل ” المجذوب اليادرزي، وكان من بينها مدينة أم درمان، التي أحببت أسواقها ودكاكينها ومحالها والبشر الذين التقيت بهم هناك، ولم يزعجني سوى جلود التماسيح المعلقة للبيع، وذلك لأن لي حكاية مع هذا الكائن “التمساحي” العجيب، وقد أجرؤ على رويها في يوم ما.
المهم أنني فكرت كثيراً بذلك الضيق الذي انتاب الدكتور محمد الواثق حين قال تلك الأبيات الشعرية، وعجبت كيف يزهد المرء مكاناً يجاور الماء؟ والنيل ليس نهراً عادياً مقارنة مع الأنهار التي عرفتها، بل هو بحر كبير وواسع، والماء كما أجزم هو التفاؤل عينه ودعوة دائمة للحياة، وهو الحياة ذاتها كما يقال، ولكنني بالمقابل رجعت إلى مقولة :” أهل مكة أدرى بشعابها” وربما تكون لدى من نطق بتلك الكلمات أسبابه الخاصة، لكنني بقيت لوقت غير قليل مستغرباً وفاتحاً فمي من قوله:
” يا ريح عاد تحري أين موقعها
وفجري فوقها غيظ البراكين”
ومن قوله أيضاً:
” يا بعض أهلي سئمت العيش بينكم
وفي الرحيل لنا من دونكم وطر ”
قد أجد من المناسب في نهاية هذه المادة التمني بأن لا يسألني أحد عن معنى “النيمُ والهجليجُ والعشرُ” لذلك أذهب إلى شكوى ناعمة ولطيفة نطق بها الشاعر السوري محمد حديفي حين قال:
“صدقيني، لم يعد في ساحة القلب فضاء
لاحتمال الأسئلة..
أورقت في بيدر القلب صبابات ودفلى.
كان قد غادرها السرب بعيداً
وتناسى أن يوافي نسغها الظمآن في الليل المطر”
بوابة الشرق الأوسط الجديدة