طاقية إخفاء اسمها ” ديليت”
بالأمس القريب، فكرت في مقاضاة محرك البحث “غوغل” باسم الحق في النسيان، لكني سرعان ما خسرت الدعوة قبل أن أحركها، وحُرمت من تعويضات قد أحصل عليها من هذه الشركة العملاقة، وذلك بسبب أن هذا ” الكائن الماكر” الذي يسكن جيوبنا ومكاتبنا وبيوتنا، قد أوجد له آليات دفاعية تتمثل في تطبيقات ـ وإن كانت لا تزال معقدة ـ يمكن من خلالها أن تمحو كل بياناتك الشخصية عبر فك ارتباطاتك الالكترونية المتعلقة، وكأنه يقول لك ” من ضربك على يدك حتى تشركنا في تدويناتك؟“.
أصبحت كلمة ” ديليت” الانكليزية تشبه طاقية الإخفاء على لوحة المفاتيح، مما مكّن ـ نفسيا ـ الشباب الناشط في ثورات “الربيع العربي” من التجرؤ على أنظمة قمعية، إيمانا راسخا منهم بأنها ستزول بكبسة زر، كما هو الحال مع ” ديليت” السحرية، وما تفعله من نسيان سهل وسريع لكل البيانات والمعطيات التي نرغب في إتلافها أو عدم العودة إليها أثناء ” فرمتة” جهاز يترنح تحت ذاكرة ثقيلة.
الكائن البشري ما زالت فرمتته صعبة، وتحتاج إلى آليات معقدة تدخل فيها السياسات الاقتصادية والثقافية والإعلامية، ذلك أن كبسة زر ” ديليت ” على الجهاز، لا تشبه كلمة “انس” لدى الإنسان، والتي هي واحدة من بضعة ” أفعال أمر” يستحيل تحقيقها، سواء كان ذلك عن حكم إلزامي أو حتى بقرار فردي، تزعم من خلاله، أنك ترمي إلى تنظيم حياتك وتنقية ذهنك مما يعكره من ذكريات تجدها مربكة.
الإنسان تتناوب عليه ثنائية النسيان والتذكر، فلا يكاد يفرغ أحد الرفوف في الذاكرة حتى يملأه بشيء جديد آخر، يراه، في عقله الباطن أو الواعي، أجدر نفعا وأكثر تنشيطا لهذا ” الهارد ديسك” الذي يولد وينمو ويشيخ معه.
الدعوة للنسيان تشبه الدعوة إلى التذكر.. إنها فعل صعب الإنجاز، ولا طائل من ورائه، في حال وجود ممانعة داخلية شديدة المراس، ومجهولة السبب في أحيان كثيرة، كأن تنسى اسم شخص تراه وتتحدث إليه كل يوم أو في المقابل، تتذكر رقم شخص محوته من جهازك، وقررت أن ” يخرج من حياتك”، ولكن دون جدوى.
وحده الحنين يقوي التذكر، يستحضر الألوان والروائح والأنفاس، وتفاصيل التفاصيل. وحده السفح يعزز النسيان إن أردناه، ويجعل الرصاص يعود من الصدور إلى البنادق.
الحاقد يتذكر دائما، يتذكر حتى كل ” ما لم يقترفه “، أما المتسامح فينسى دائما، ينسى حتى لحظات تسامحه.. لذلك تُهدى أغنية ” تعال ننسى” للبشر وحدهم، دون الأجهزة والربوتات.